ترامب يُعيد العنجهية الأمريكية إلى نيجيريا باسم الدين

 

 

 

خالد بن سالم الغساني

 

كعادته المُفضلة في مَلء وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي يوميًا بالتصريحات الصاخبة، والتي يخشى العالم أن ينسى فيما لو تغيب لحظة، أنَّه لازال رئيسًا قائمًا، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توجيهاته إلى وزارة الحرب "البنتاجون" بالاستعداد لعملٍ عسكري مُحتمل ضد نيجيريا، مستندًا إلى ادعاءات تمت صياغتها وتفصيلها وفقًا لأهواء دوائره العدوانية، تتمثل في اضطهاد المسيحيين في البلاد.

بهذا التصريح، أعاد ترامب وبقوة إلى الأذهان لغة التهديد الأمريكية التي اعتقد كثيرون أنَّ العالم بدأ يتجاوزها بعد عقود من التدخلات العسكرية الكارثية في مناطق متعددة من العالم. تحدّث ترامب عن هجوم وشيك إذا استمرت المجازر "بحق المسيحيين"، مُستخدمًا خطابًا دينيًا حادًا يوحي بأنَّ القوة العسكرية يمكن أن تكون وسيلة للعدالة الأخلاقية، وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه من خلال خطاب يذكّر بلغة الحروب الصليبية أكثر مما يذكّر بلغة السياسة الحديثة، التي هي انعكاس جليّ لرؤية أمريكية ترى نفسها وصيًا على العالم، قادر على فرض إرادته متى شاء، حتى على حساب سيادة الدول وحرمة القانون الدولي.

على أن واقع الصراع في نيجيريا أكثر تعقيدًا واختلافًا مما يُصوِّره ترامب؛ فالعنف هناك ليس اضطهادًا دينيًا أحادي الوجه، كما أراد ترامب أن يقنع العالم به وأن يجعله مبررًا لتدخله العسكري؛ بل إنه خليط من صراعات متشابكة اقتصادية وعرقية ومعيشية ودينية، تتشابك فيها مصالح فئات وشرائح المجتمع المختلفة، إلى جانب نشاط الجماعات المسلحة مثل "بوكو حرام" و"داعش غرب إفريقيا"، إضافة إلى ضعف مؤسسات الأمن وانهيار التنمية في بعض المناطق.

واختزال هذه الأزمة إلى صراع ديني ضد المسيحيين هو تبسيط مُضلِّل يخدم أجندة أمريكية، ويُحوِّل مأساة محلية متعددة الأبعاد إلى ذريعة لتبرير تدخل عسكري.

من ناحية القانون الدولي، لا يملك ترامب أو أي دولة الحق في فرض إرادتها بالقوة على دولة مستقلة بمثل هذه الذريعة، أو سواها من الذرائع التي تعودنا أن نقرأها في التاريخ ونسمعها حتى اليوم من دول الغرب الاستعماري. والمجتمع الدولي يمكن أن يمارس الضغوط السياسية والدبلوماسية، لكن التدخل العسكري المباشر دون تفويض من الأمم المتحدة أو دعوة رسمية من الدولة نفسها يُعدّ انتهاكًا صارخًا لميثاق الأمم المتحدة، ويُعيد إلى الأذهان تدخلات سابقة في العراق وليبيا وأفغانستان وسورية، حيث تم استخدام شعارات "الحماية الإنسانية" لتبرير حروب أفضت في النهاية إلى دمار شامل وانهيار مؤسسات الدولة.

التهديد الأمريكي اليوم يعكس عودة واضحة إلى منطق القوة الغاشمة، لكن هذه المرة في إفريقيا، حيث لم تعد القارة تقبل التدخلات المباشرة بسهولة كما كان في العقود السابقة. واستخدام الدين كغطاء للسياسة الخارجية بمثابة خطوة خطيرة؛ إذ يُحوِّل قضية محلية معقدة إلى مسرح عالمي، ويضع الولايات المتحدة في موقع المتحكم الأخلاقي والقادر على العقاب، وهو موقع لطالما أثار انتقادات واسعة في أوساط القانون الدولي والدبلوماسية.

تاريخيًا، لم تتوقف الولايات المتحدة عن استخدام القوة تحت شعارات أخلاقية أو دينية لتبرير مصالح استراتيجية، من العراق إلى ليبيا وأفغانستان ثم سوريا، وكانت النتيجة دائمًا دمارًا هائلًا للبنى التحتية وتشريد السكان وقتلهم، وانهيار مؤسسات الدولة. اليوم يُعيد ترامب إنتاج هذه اللغة، وهذه المرة باسم الدين، ما يجعل التدخل الأمريكي في نيجيريا أكثر حساسية واحتكاكًا بالقيم القانونية والأخلاقية المعترف بها دوليًا.

ما يحدث في نيجيريا اختبار عالمي لقيم السيادة وعدم التدخل، ولقدرة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي على التصدي لمحاولات فرض إرادة دولة كبرى على دولة مستقلة. تحوّل الدين إلى أداة سياسية يعكس رؤية ضيقة للعالم، حيث يمكن أن تصبح المبررات الأخلاقية غطاءً لمصالح استراتيجية أو موارد طبيعية أو موطئ قدم جيوسياسي، وهو نمط متكرر في السياسة الأمريكية منذ منتصف القرن الماضي.

مرة أخرى إن تهديد ترامب وتحضيره لهجوم عسكري، مؤشر على أن الولايات المتحدة، تحت قيادته، لا تزال ترى العالم ساحة نفوذ ووصاية، وأن الدين يُمكن أن يُستغل لتبرير القوة.

ويبقى السؤال الأهم: هل سيكون المجتمع الدولي قادرًا على ردع هذا التهديد قبل أن يتحول إلى واقع ميداني، أم ستستمر العنجهيّة الأمريكية في إعادة إنتاج نفسها باسم الدين، كما جرت العادة في التاريخ الحديث؟

الأكثر قراءة