نزع السلاح ونزع الذاكرة.. الحرب الصهيونية على الوعي

 

خالد بن سالم الغساني

الاستخفاف الكبير والوقح الذي تمارسه الولايات المتحدة الإمريكية بالإشتراك مع الكيان الصهيوني المحتل، وعبر آلاتهم الدعائية والإعلامية الضخمة، تجاه العقل العربي، أصبح نهجًا ثابتًا تغذّيه تلك الآلة الصهيونية والإستعمارية التي دأبت على تكرار الأكاذيب وتزييف الحقائق، لتبرير جرائمها وإقناع العالم بأن الضحية هو المعتدي، والمحتل هو الباحث عن السلام.

ويأتي تصريح وزير حرب دويلة الإحتلال الأخير، حول نزع سلاح حماس وتدمير أنفاقها في نفس السياق الذي لم يعد يقم أي وزن لذلك العقل الذي غُيٌب لاسباب كثيرة. إنه بيانٌ صريح لعقيدة استعمارية متجذرة، تتجاوز حدود غزة والأنفاق إلى ما هو أبعد وأعمق، محاولة تجريد الشعب الفلسطيني من أدوات مقاومته المادية أولًا، ثم من وعيه التاريخي وحقه في الوجود الحر ثانيًا، بعد ان غُيّب كثيرٌ من العقل والوعي العربيين تجاه قضية العرب المركزية الأولى، القضية الفلسطينية.

في كل مرة تتحدث أمريكا عن نزع السلاح بلسانها، أو على ألسنة قادة الحرب الصهاينة، فإنها في الواقع تتحدث عن نزع الروح، عن تفريغ الفعل التحرري من مضمونه، وتحويل الفلسطيني من فاعل في صراعه إلى موضوعٍ خاضع لمعادلات أمنية تُفرض عليه باسم السلام والأمن والاستقرار.

الوزير الإسرائيلي حين يعلن أن تدمير أنفاق حماس هو المهمة المركزية، وأن ستين في المئة من هذه الأنفاق ما تزال قائمة، فهو يقول لنا ولكم أن هناك رموزًا لمجتمعٍ يصرّ على البقاء والمقاومة، رغم كل أشكال الحصار. تلك الأنفاق التي شيطنها الإعلام الإمريكي-الصهيوني والغربي، هي وجه آخر لإرادة الحياة في مواجهة آلات الفناء.

من هنا نستنتج إن المعركة التي يحضرون لها ويعدون العدة لشنها ضد الأنفاق معركة فكرية؛ هي حرب على إمكانية المقاومة ذاتها، وعلى أي نموذجٍ يُذكّر العالم بأن الضعيف حين يُحاصر قد يحفر طريقه بأظافره نحو الحرية.

وراء هذه اللغة الأمنية تقف الولايات المتحدة بوصفها الراعي الأكبر للمشروع الصهيوني، تُعيد إنتاج نفس الخطاب الذي مارسته القوى الاستعمارية عبر التاريخ: تدمير المقاومة باسم السلام، وإعادة صياغة الجغرافيا والسياسة تحت شعار التسوية.

وما يُعرف بخطة ترامب للسلام لم تكن سوى الإطار الأوضح لهذا المنهج؛ إذ لم تسعَ إلى إنهاء الاحتلال، بل إلى شرعنته وتجميله عبر لغة اقتصادية وتنموية، تُقدّم للفلسطينيين مستقبلًا زائفًا مزدهرًا مقابل أن يتخلّوا عن حقهم في تقرير المصير. إنها محاولة لاستبدال التحرر بالتحسين، والثورة بالتطبيع، والمقاومة بالتسليم والإستسلام.

الاستعمار الحديث لا يأتي اليوم على ظهور الدبابات وحدها، وقد قال شاعر اليمن وفيلسوفها الكبير المرحوم بإذن الله، عبدالله البردوني:

غزاة لا أشاهدهم وسيف الغزو في صدري..

غزاة اليوم كالطاعون.. يحجر مولد الآتي يوشي الحاضر المزري

إنه اليوم يرتدي عباءة إعادة الإعمار وإدارة الأمن، ويقدّم نفسه كمنقذٍ من الفوضى التي صنعها هو. لذلك فإن مشروع نزع السلاح ليس سوى الوجه الجديد لمشروع نزع الذاكرة؛ حيث تُصاغ خرائط جديدة للمنطقة تحت إشراف واشنطن، ويُعاد تعريف المقاومة باعتبارها إرهابًا، وتُفرض هوية سياسية مقبولة أمريكيًا وإسرائيليًا للفلسطينيين والعرب جميعًا.

هنا وفي جوهر هذا التصريح الإسرائيلي العفن، يكمن جوهر المشروع الصهيوني منذ بدايته: احتكار القوة، وتحريم الرد عليها. فحين يمتلك الاحتلال ترسانة نووية يُسمّيها حق الدفاع عن النفس، وحين يحمل الفلسطيني بندقية يُسمّونها تهديدًا للأمن. هذه المعادلة المختلّة هي عين الاستعمار الذي يُحاكم المقهور على فعله التحرري، ويجعل من الضحية متهمًا ومن الجلاد حاميًا للنظام الدولي.

إن ما يجري بالإضافة إلى المعركة على الأرض، معركة على المفاهيم: ماذا يعني الأمن؟ من يملك تعريف السلام؟ ومن يملك الحق في استخدام القوة؟ لذلك فإن التصريح الإسرائيلي الأخير لا يمكن قراءته بمعزل عن المشروع الأمريكي الأوسع لإعادة هندسة الوعي العربي والفلسطيني، بحيث يُعاد إنتاج فكرة الهزيمة على أنها حكمة، والاستسلام على أنه شجاعة، والحياد على أنه واقعية.

هكذا، يصبح نزع السلاح خطوة في مسارٍ طويل من نزع الوعي، ويصبح تدمير الأنفاق محاولة لردم الطريق الأخير بين الفلسطيني وحلمه بالحرية. لكن ما تغفله واشنطن وتل أبيب أن المقاومة ليست بندقية ولا نفقًا ولا شعارًا، بل فكرة، والفكرة لا تُدمَّر بالمتفجرات، ولا تُدفن تحت الركام. الفكرة، كلما حوصرت، حفرت طريقًا جديدًا في الوعي الإنساني نحو العدالة، وكل تصريحٍ كهذا إنما يكشف فشل المشروع الصهيوني في فهم طبيعة خصمه: شعبٌ لا يطلب سوى أن يكون حرًّا، ولن يتنازل عن هذا الحق، مهما تعددت الأسماء والخطط، ومهما لبست الإمبراطورية ثوب السلام.

فهل هناك فكرة أوضح وأجلّ من الفكرة التي جاءت على لسان الحق سبحانه وتعالى في وصفه للمؤمنين: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة: 109) صدق الله العظيم.

الأكثر قراءة