أميمة بوخليفي **
في زمن تتسارع فيه وتيرة التغير المناخي وتتصاعد الأزمات البيئية، أصبح الماء- هذا العنصر البسيط في ظاهره، العظيم في جوهره- عنوانًا لأعقد التحديات التي تُواجه البشرية، لم يعد الأمر مقتصرًا على العطش أو الجفاف؛ بل تعداه إلى تهديد الأمن الغذائي والاقتصاد العالمي، فندرة المياه اليوم ليست أزمة طبيعية فحسب؛ بل أزمة إدارة ووعي تضع مستقبل الإنسان والتنمية على المحك.
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن ثلث سكان العالم يعيشون في مناطق تعاني من شحّ مائي حاد، فيما يفتقر أكثر من ملياري إنسان إلى مياه آمنة بشكل دائم، وتستهلك الزراعة أكثر من 70% من الموارد المائية العذبة على مستوى العالم مما يجعلها القطاع الأكثر تأثرًا بندرة المياه. ومع توقع وصول عدد سكان الكوكب إلى نحو 9.7 مليارات نسمة بحلول عام 2050، يتراجع نصيب الفرد من المياه إلى أقل من 4000 متر مكعب سنويًا، ما ينذر بأزمة غذائية عالمية قد تكلّف الاقتصاد الدولي خسائر تصل إلى 8% من الناتج المحلي الإجمالي.
وتتجلى خطورة هذه الأزمة في انعكاسها المباشر على الإنتاج الزراعي، إذ تؤدي موجات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة إلى تراجع إنتاج المحاصيل الأساسية كالأرز والقمح وغيرها من المحاصيل الاستراتيجية، وتتقلص الأراضي الصالحة للزراعة وتتسع الفجوة بين العرض والطلب الغذائي، فيرتفع مستوى الأسعار وتزداد معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي في العديد من الدول النامية، ولا تقف تداعيات ندرة المياه عند حدود الحقول الزراعية؛ بل تمتد لتثقل كاهل الاقتصادات الوطنية؛ إذ يؤدي ارتفاع تكاليف الإنتاج وتراجع الإنتاجية إلى تحديات مالية متزايدة تدفع الدول إلى استيراد كميات أكبر من الغذاء، ومع تقلّص فرص العمل في القطاع الفلاحي، تتفاقم الفوارق الاجتماعية ما يجعل من إدارة الموارد المائية أولوية استراتيجية لضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
ولمواجهة هذا التحدي الوجودي، بات لزامًا على الدول تبني حلول مبتكرة ومستدامة تضمن كفاءة الاستخدام وعدالة التوزيع. وتشكل الزراعة الذكية المائية وتقنيات الري بالتنقيط والمراقبة الرقمية لتوزيع المياه أدوات فعالة لترشيد الاستهلاك وزيادة الكفاءة. كما إن تطوير محاصيل مقاومة للجفاف وإعادة استخدام المياه المعالجة في الزراعة والصناعة يساهم في بناء اقتصاد مائي دائري أكثر توازنًا، إلى جانب الاستثمار في تحلية المياه بالاعتماد على الطاقات المتجددة، خصوصًا في المناطق الساحلية والجافة.
ومن بين الأساليب الحيوية لحفظ الموارد المائية، تبرُز أهمية سدود التغذية الجوفية، وهي منشآت هندسية تهدف إلى تخزين مياه الأمطار والسيول مؤقتًا، ثم تمكينها من التسرب التدريجي إلى باطن الأرض لتجديد المخزون الجوفي، وتكمن أهمية هذه السدود في كونها تجمع بين حفظ المياه السطحية وتعزيز الأمن المائي تحت الأرض، بما يقلل من خطر التبخر الذي يبدد كميات ضخمة من المياه في المناطق الحارة وحماية القرى والمدن من السيول. كما تسهم سدود التغذية الجوفية في استقرار مناسيب المياه في الآبار، وتحسين جودة المياه الجوفية عبر خلطها بمياه عذبة متجددة، وهو ما يجعلها أحد أكثر الحلول استدامة في مواجهة الجفاف والتغير المناخي. ويمكن تعزيز فعاليتها عبر دمجها في شبكات حصاد مياه الأمطار والأنهار، وتطوير تقنيات الرصد والتحكم الذكي في تخزينها وتصريفها، مع الاهتمام بتبطين القنوات المائية وتقليل الفاقد الناتج عن التسرب، وإشراك المجتمعات المحلية في إدارتها لضمان استدامتها وتحويلها إلى مورد جماعي يحمي الأمن المائي والغذائي على السواء.
وترتبط قضية ندرة المياه والأمن الغذائي ارتباطًا وثيقًا بأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة لعام 2030؛ حيث يشكل الهدف السادس محورًا أساسيًا يدعو إلى “ضمان توافر المياه وخدمات الصرف الصحي للجميع وإدارتها إدارة مستدامة”، بينما يوازيه الهدف الثاني الذي ينص على “القضاء التام على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي وتعزيز الزراعة المستدامة”.
وتتقاطع هذه القضية مع أهداف أخرى مثل الهدف الثالث عشر المتعلق بالعمل المناخي، والهدف الثاني عشر الخاص بالاستهلاك والإنتاج المسؤولين، والهدف الخامس عشر الذي يركز على حماية النظم الإيكولوجية البرية والمائية. ويؤكد هذا الترابط أن تحقيق الأمن المائي هو شرط أساسي لتحقيق الأمن الغذائي، وأن الإدارة المتكاملة للموارد المائية تمثل ركيزة لتحقيق التنمية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
لكن الحلول التقنية التشريعية مهما بلغت من تطور تبقى ناقصة ما لم تواكبها نهضة ثقافية ومؤسساتية تعيد الاعتبار للماء كقيمة حضارية وإنسانية. فالوعي المجتمعي بأهمية ترشيد الاستهلاك وتغيير العادات اليومية هو المدخل الحقيقي لأي إصلاح مائي شامل، كما أن التعليم البيئي وسياسات التشجيع على الابتكار في التكنولوجيا المائية، وبناء مؤسسات قوية لإدارة الموارد، تشكل مجتمعة قاعدة صلبة لتحويل الماء من مورد محدود إلى رأس مال استراتيجي يقود التنمية ويصون الأمن الغذائي للأجيال القادمة.
إنَّ ضمان الأمن المائي والغذائي لم يعد ترفًا أو خيارًا مؤجلًا، وإنما ضرورة وجودية تمسّ بقاء الإنسان واستقرار المجتمعات. فالماء ليس مجرد مورد طبيعي؛ بل ثروة استراتيجية تحدد مصير الدول وحضاراتها. ومن هنا، ينبغي أن تتحول إدارة المياه إلى مسؤولية جماعية تشترك فيها الدولة والمواطن والقطاع الخاص، برؤية موحدة قائمة على الوعي والمسؤولية والتخطيط المستدام. فحماية قطرة الماء اليوم هي استثمار في حياة الغد، وضمان لمستقبل أكثر أمانًا وعدلًا وازدهارًا للبشرية جمعاء.
** كاتبة وباحثة تنموية مغربية
