الصين ترسم ملامح مستقبلها بثقة

تشو شيوان **

 

بينما اختتمت الصين فصول الخطة الخمسية الرابعة عشرة، تستعد اليوم لفتح صفحة جديدة من مسيرتها التنموية مع الخطة الخمسية الخامسة عشرة، والأمر ليس مجرد استمرارية زمنية؛ بل انتقال نوعي يعكس نضوج التجربة الصينية وقدرتها على استشراف المستقبل بثقة راسخة.

منذ عام 1953، شكّلت الخطط الخمسية حجر الزاوية في نظام الحوكمة الصيني، وها هي اليوم وبعد 70 عامًا من تلك البداية، تدخل الصين مرحلة جديدة دولة يزيد عدد سكانها عن 1.4 مليار نسمة لا تكتفي بالتكيّف مع المتغيرات؛ بل تسعى لقيادتها، ففي ضل تعقد المشهد الدولي وتحوّلات غير مسبوقة في الاقتصاد العالمي يظل المشهد الصيني لافتًا للنظر؛ التغيير نحو الأفضل مهما كانت التحديات والأزمات.

لقد تميزت فترة الخطة الرابعة عشرة بتحوّل جوهري في فلسفة التنمية الصينية من التركيز على سرعة النمو إلى التركيز على جودته واستدامته، ولم يعد المقياس هو الأرقام وحدها؛ بل نوعية النمو، وعمق الابتكار، وقدرة الاقتصاد على خلق قيمة مضافة حقيقية، وأجد أن هذا التحول يعكس نضوج التجربة الصينية وفهمها العميق لديناميات التنمية الحديثة، والصين اليوم تمارس دورها العالمي في التنمية من خلال خلق نموذج فريد ومتزن يوازن بين نوع التنمية وسرعته.

وإذا أردنا الحديث عن التنمية الصينية، فقد حقق الصين قفزات علمية تضعها بين القوى الريادية عالميًا خصوصًا في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والمعلومات الكمومية، والطب الحيوي، واستكشاف الفضاء والبحار، واليوم نجد أنه قد أصبح التكامل بين الاقتصاد الرقمي والاقتصاد الحقيقي حقيقة ملموسة، فيما يرسخ التصنيع الذكي موقع الصين كمحرك رئيسي للاقتصاد العالمي.

إن الصين اليوم لا تُعرّف نفسها كمصنع العالم فحسب؛ بل كمصدر عالمي للابتكار. ومع هذا التحول، تُقدِّم نموذجًا ملهِمًا لدول نامية أخرى: نموذج يقوم على الثقة بالنفس، والتخطيط البعيد المدى، والاستثمار في العقول قبل الموارد، واليوم مع اقتراب إطلاق الخطة الخمسية الخامسة عشرة، يبدو واضحًا أن الصين تتطلع إلى أكثر من مجرد استمرار النمو؛ إنها تسعى لتوجيه دفته عالميًا، لتصوغ مستقبلًا أكثر توازنًا وعدالة في نظام اقتصادي يعاد تشكيله من جديد.

وخلال السنوات الخمس الماضية، حققت الصين تقدمًا كبيرًا في التنمية المنسقة والازدهار المشترك، ولا تزال إمكانات الطلب المحلي لديها تنطلق. تُشكل الاستراتيجيات الإقليمية الرئيسية، مثل التنمية المنسقة لمنطقة بكين-تيانجين-خبي، وتكامل دلتا نهر اليانغتسي، وبناء منطقة خليج قوانغدونغ-هونغ كونغ-ماكاو الكبرى، مشهدا اقتصاديا أكثر ديناميكية. تُحرز استراتيجية الإنعاش الريفي تقدما ملموسا، مما يُضيّق الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية. وفي سوق يبلغ عدد سكانه أكثر من 1.4 مليار نسمة ويضم مجموعة متنامية من ذوي الدخل المتوسط، فإن إطلاق إمكانات الطلب المحلي يوفر فرصًا سوقية مستقرة وواسعة النطاق لشركاء التجارة العالميين.

وما يميز الموقف الصيني اليوم هو إصرارها على المضي عكس التيار العالمي المتراجع عن العولمة؛ ففي وقت تتصاعد فيه النزعات الحمائية وتتزايد الدعوات إلى الانغلاق الاقتصادي، تواصل الصين فتح أبوابها على مصراعيها أمام الاستثمار الأجنبي، وتعمل بخطوات ثابتة على تطوير مناطق التجارة الحرة التجريبية وميناء هاينان للتجارة الحرة، ومع دخول الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة حيز التنفيذ الكامل، باتت الصين تُرسّخ مكانتها كمحور رئيسي في منظومة التجارة العالمية.

أجد أن المعارض الدولية الكبرى التي تنظمها الصين مثل معرض الصين الدولي للاستيراد، ومعرض الصين الدولي لتجارة الخدمات، ومعرض الصين الدولي للمنتجات الاستهلاكية  ليست مجرد فعاليات اقتصادية؛ بل رموز حية لنهج الصين في بناء جسور جديدة تربطها بالعالم عبر سوق مفتوحة ومشتركة، ومن خلال هذه الخطوات الملموسة، تُثبت الصين أنها ليست فقط مستفيدة من العولمة، بل مدافعة عنها ومؤمنة بأن ازدهارها الحقيقي لا يتحقق إلا بتكامل العالم لا بانعزاله.

إن ما يلفت الانتباه في التجربة الصينية اليوم هو قدرتها على الجمع بين التنمية الاقتصادية السريعة والتحول البيئي العميق في آنٍ واحد، فالصين تُحرز تقدمًا مطّردًا في مسيرتها نحو التحول الأخضر، وتبرهن للعالم أن حماية البيئة ليست عائقًا أمام النمو، بل ركيزة من ركائزه، ومع تبنّيها لأهداف "الكربون المزدوج" الوصول إلى ذروة الانبعاثات قبل عام 2030 وتحقيق الحياد الكربوني قبل عام 2060 تُظهر الصين طموحًا واضحًا في قيادة الجهود العالمية لمواجهة تغيّر المناخ.

وخلال فترة الخطة الخمسية الرابعة عشرة، شهدت البلاد قفزة غير مسبوقة في إنتاج الطاقة المتجددة، إذ أصبحت صناعتا طاقة الرياح والطاقة الكهروضوئية من بين الأقوى على مستوى العالم، مانحتين الصين ميزة تنافسية واضحة في سوق الطاقة النظيفة. كما نجحت الدولة في خفض كثافة استهلاك الطاقة والسيطرة على وتيرة نمو انبعاثات الكربون بشكل فعّال، ومن وجهة نظري، لا تمثل هذه الثورة الخضراء مجرد التزام وطني بحماية البيئة؛ بل أيضًا مساهمة إنسانية كبرى نحو تنمية عالمية أكثر استدامة. فالصين لا تكتفي بإصلاح بيئتها الداخلية، بل تقدم نموذجًا يُلهم العالم في كيفية تحقيق التوازن بين الازدهار الاقتصادي وحماية الكوكب.

وبناء على الأساس المتين الذي أرسته الخطة الخمسية الرابعة عشرة، تحمل الخطة الخمسية الخامسة عشرة، التي ستبدأ في عام 2026، آمالًا أكبر؛ فهي ليست مجرد خطوة أساسية نحو تحقيق رؤية 2035؛ بل سترسم أيضًا مخططًا تفصيليًا لمسار الصين نحو التحديث في عالم متزايد التعقيد والتغير. تُجسّد الخطط الخمسية الصينية قدرة الحوكمة واستمرارية استراتيجية التنمية لدولة كبرى. فمنذ تنفيذ الخطة الخمسية الرابعة عشرة وحتى التخطيط للخطة الخمسية الخامسة عشرة، برهنت الصين بوضوح على عزمها وحكمتها في السعي نحو اليقين في ظلّ الظروف غير المستقرة، واغتنام فرص جديدة في مواجهة الصعوبات والتحديات.

إنَّ مسار التنمية هذا، المُسترشد بالتنمية عالية الجودة، والمُوجّه بالتحديث الصيني النمط، والمُركز على رفاهية الشعب الصيني، والمُتبنّي للانفتاح والتعاون، لا يُؤثّر فقط على مستقبل الشعب الصيني، بل سيكون له أيضا تأثير عميق على السلام والتنمية العالميين. يترقب العالم بشغف كيف يمكن لصين أكثر ازدهارا وانفتاحا وابتكارا أن تساهم في تعزيز الاستقرار والطاقة الإيجابية في مشهد عالمي مُضطرب ومتحول.

** صحفي في مجموعة الصين للإعلام، متخصص بالشؤون الصينية وبقضايا الشرق الأوسط والعلاقات الصينية- العربية

الأكثر قراءة