تقاعد 30 سنة.. بين المعلومة الغائبة والقلق الحاضر

 

خالد بن حمد الرواحي

في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي برسائل تتحدث عن قرب تطبيق التقاعد الإلزامي على الموظفين الذين التحقوا بالجهاز الإداري للدولة في 30 يونيو 1995 وما قبلها؛ أي من أكملوا 30 سنة في الخدمة. ورغم أن هذه المعلومات لم تصدر من جهة رسمية، ولم تُنفَ كذلك، إلّا أنها خلّفت وراءها حالة من القلق والترقّب بين آلاف الموظفين الذين وجدوا أنفسهم أمام سؤالٍ واحد: هل أصبح التقاعد أقرب مما يظنون؟

تلك الرسائل القصيرة التي انتشرت بلا توقيعٍ ولا توضيح أعادت إلى الواجهة هاجس الأمان الوظيفي، وكشفت هشاشة الثقة في زمنٍ تتقدّم فيه الشائعة على البيان الرسمي. وبين انتظار التوضيح وقلق المجهول، يقف الموظف متسائلًا: هل ما يُقال حقيقة قادمة أم موجة عابرة من الكلام الرقمي؟

ومع ازدياد تداول تلك الرسائل، أصبحت المعلومة تنتقل أسرع من البيان الرسمي، فتتسع المسافة بين الخبر المؤكد والتأويل العشوائي. وهنا تبرز مسؤولية الجميع؛ فالمجتمع يحتاج إلى وعيٍ رقميٍ ناضج يدرك أن «المعلومة غير المؤكّدة» قد تتحول إلى «مخاوف مؤكّدة» في نفوس الناس. كما إن المؤسسات الحكومية مطالَبة بأن تكون أكثر حضورًا في المشهد الاتصالي، تُوضح ما يجري في حينه، لأن الصمت لا يُفهم حيادًا، بل يُفسَّر غيابًا.

وراء هذه الشائعات تختبئ قصصٌ إنسانية كثيرة؛ فهناك موظفٌ يقرأها بقلق، وزوجةٌ تسأله: «هل صحيح أنك ستتقاعد قريبًا؟» وأبناءٌ ينتظرون ما سيقوله الغد؛ فالقضية لا تتعلّق بقرار إداري فحسب؛ بل بمصير أسرٍ كاملة بنت استقرارها على راتبٍ ثابت وأمانٍ وظيفي امتد لعقود.

الموظف الذي يقترب من التقاعد ليس مجرد رقمٍ في كشف الرواتب؛ بل ربّ أسرةٍ يحمل على كتفيه التزاماتٍ وقروضًا خطط لسدادها قبل بلوغه سن الستين. وقد يكون لديه أبناءٌ مسرّحون من العمل أو باحثون عن وظيفةٍ يعولهم ويقف خلفهم في صمتٍ ومسؤولية.

إنّ أي قرارٍ مُفاجئ يضع الموظف أمام تقاعدٍ غير متوقّع يعني زعزعة منظومةٍ كاملة من الالتزامات والآمال، لأن المعلومة في مثل هذه القضايا ليست ترفًا إداريًا، بل حقٌّ إنسانيٌّ وواجبٌ مؤسسيٌّ في آنٍ واحد.

وإذا صحّ ما يُتداول عن أن العدد المستهدف للتقاعد يبلغ قرابة 18 ألف موظف، فإنّ التأثير لن يكون فرديًا فحسب؛ بل مجتمعيًا واسعًا؛ لأن كل موظفٍ خلفه أسرةٌ ممتدة تعتمد عليه في دخلها ومصاريفها، ومع خروج هذا العدد الكبير دفعةً واحدة قد تتأثر الطبقة المتوسطة، وهي ركيزة التوازن الاقتصادي في المجتمع.

إنّ انتقال بعض هذه الأسر إلى فئة مُستحقي الدعم قد يفرض ضغطًا إضافيًا على منظومة الحماية الاجتماعية؛ مما يجعل أي قرارٍ بهذا الحجم بحاجة إلى قراءة شاملة تتجاوز الحسابات الوظيفية إلى الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية الأعمق.

ومن الزاوية الإدارية، فإنّ الحديث عن التقاعد الإلزامي ليس جديدًا؛ بل يأتي ضمن سياسات تجديد الدماء وإتاحة الفرص للأجيال الجديدة. غير أنّ الإشكالية لا تكمن في القرار ذاته؛ بل في آلية تطبيقه وعدالته المؤسسية. فهل يُقاس استمرار الموظف بعدد سنوات الخدمة أم بكفاءته الفعلية؟ وهل يكفي أن يبلغ الثلاثين سنة من الخدمة لتُصبح الإحالة للتقاعد أمرًا حتميًا؟ إنّ التاريخ الإداري لا يُستدعى للتكرار؛ بل للتعلّم وتصحيح المسار؛ إذ إن التوازن بين التجديد والحفاظ على الخبرة ليس ترفًا إداريًا؛ بل ضرورة وطنية تضمن استدامة الكفاءة في الجهاز الحكومي.

إنّ إفراغ الجهاز الإداري من الخبرة المؤسسية قد يحمل في طيّاته خسارةً نوعية يصعب تعويضها، فهذه الكفاءات تمثل جزءًا من الذاكرة المهنية للدولة، وهي عنصرٌ أساسي لتحقيق مستهدفات رؤية "عُمان 2040".

ولذلك، فإنَّ أي توجّه جديد نحو التقاعد ينبغي أن يسبقه تقييم موضوعي للتجارب السابقة التي شهدت إحالة من أكملوا 30 سنة في الخدمة، وما ترتّب عليها من آثارٍ اجتماعية ومعيشية؛ فالتقييم الواقعي لتلك المرحلة يمنح صُنّاع القرار صورةً أوضح عن النتائج، ويكشف إن كانت الأهداف قد تحققت أم أن التجربة تحتاج إلى مراجعةٍ أعمق ومعالجةٍ مختلفة.

إنّ حلّ مشكلة الباحثين عن عمل عبر إحلالهم محلّ ذوي الخبرة، إن لم يُدرس بعمق، قد يخلق مشكلةً أكبر على المدى البعيد؛ فالإصلاح الحقيقي لا يقوم على الاستبدال؛ بل على التكامل بين الأجيال وتبادل الخبرة، بما يضمن انتقال المعرفة لا فقدانها.

ومن جهة أخرى، يظل التساؤل مطروحًا: هل أُجريت دراسة اكتوارية دقيقة للتأكّد من أن مثل هذا القرار لن يؤثر على استدامة صناديق التقاعد؟ فالتقاعد ليس مجرّد انتقالٍ إداري؛ بل قرارٌ ماليٌّ واستراتيجي يجب أن يُبنى على قراءة علمية دقيقة توازن بين المصلحة المؤسسية والاستقرار الاجتماعي.

وربما يكون الحلّ الأنسب هو تحويل التقاعد الإلزامي إلى خيارٍ للموظف الذي أكمل 30 سنة في الخدمة، بحيث يُمنح حقّ التقدير الذاتي بين الاستمرار أو التقاعد المبكر، مع تقديم حوافز عادلة تشجّع الراغبين في التقاعد الطوعي دون أن يشعروا بأنهم أُجبروا عليه.

الإصلاح الإداري لا يقوم على الإكراه؛ بل على التحفيز والمشاركة، وعلى الإيمان بأن الاستقرار لا يتعارض مع التجديد، بل يمكن أن يسير معه بخطى متوازنة تعود بالنفع على الموظف والمؤسسة معًا.

إنّ القضايا الكبرى، كملفّ التقاعد، لا تُدار بالهمس أو بالتأويل؛ بل بالحوار الصريح والمعلومة الدقيقة. المجتمع بحاجة إلى تواصلٍ واضحٍ وشفاف من الجهات المعنيّة، يقطع الطريق أمام الشائعات ويمنح الناس ثقةً في أن القرارات تُبنى على رؤيةٍ عادلةٍ تراعي المصلحة العامة ولا تُغفل الأثر الإنساني.

وفي النهاية، الناس لا يخافون القرارات بقدر ما يخافون الغموض؛ فحين تكون الحقيقة حاضرة، تسكن النفوس، وتبقى الثقة أقوى من كل شائعة.

الأكثر قراءة