مصادرة الفكر

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

يتسابق العالم من حولنا نحو غزارة الإنتاج الفكري الذي يرفع من مستوى عقول الناس ويفتح آفاق جديدة نحو الاجتهاد والتدبر في أمور المجتمع بهدف تقديم الحلول للمشاكل والتحديات التي تواجه الأجيال الصاعدة العمل على وتنويرهم وذلك للارتقاء بالفكر الإنساني، خاصة المتعطشين للاطلاع، وعلى الرغم من أن العرب يشكلون حوالي 6 بالمائة من سكان هذا الكوكب؛ إلا أن إسهاماتهم في الإنتاج المعرفي والتأليف لا تتجاوز 1.1 بالمائة من الكتب المنشورة على مستوى العالم في أفضل الأحوال.

وتشير الأرقام الإحصائية إلى أن 20 دولة عربية مجتمعة تنتج بمعدل 63 ألف كتاب فقط في السنة الواحدة. وهناك اعتقاد على نطاق واسع من المفكرين بأن سبب ضحالة الإنتاج الفكري تعود بالدرجة الأولى إلى النخب المتسلطة من الحرس القديم الذين يحاربون المصلحين من كتاب الرأي ذوي التوجه الإصلاحي، وكذلك من بعض أنظمة الحكم الظلامية والاستبدادية في بلاد العرب، إذ يعود لهم السبب في انتشار الجهل والأمية وذلك من خلال الرقابة المشددة ومنع المقالات والإصدارات ذات الطابع السياسي والنقدي من الوصول إلى الجمهور إلا بعد الحذف والاستبعاد من حراس البوابات الإعلامية في الوزارات المختصة بمصادرة الفكر وما أكثرها للحيلولة دون كشف الحقائق المتعلقة بالفساد المالي والإداري، من هنا يحجم الكتاب والمؤلفون عن العمل في المجالات الفكرية والأدبية والاقتصادية، مما يضع بظلاله على القراء والعزوف عن البحث والتدبر والاجتهاد في ميادين الفكر والمعرفة.

وعلى الرغم من كل التحديات التي تعرقل الإصدارات والنشر العلمي؛ تبقى القراءة غذاء الروح ومفتاح للمعرفة، ويقاس تطور الشعوب والأمم برصيدها الثقافي والمعرفي على مستوى أفراد المجتمع، ومدى استخدامهم للمهارات والخبرات التي يكتسبونها من القراءة في حياتهم اليومية. فالثقافة الحقيقية جواز سفر للنجاح في الدنيا والآخرة، فهي أي الثقافة عنوان لكل الشهادات العلمية التي نحصل عليها بانتظامنا في الدراسة الأكاديمية من المرحلة الابتدائية إلى شهادة الدكتوراه. كما أن التجارب اليومية من أهم دروس الحياة التي تضاف إلى رصيد الإنسان وتُنير له دروب المستقبل، وتساعده على استخدام هذه الذخيرة المعرفية في اتخاذ القرارات السليمة.

عالميًا.. معدل ساعات القراءة لعام 2024، يشير إلى احتلال الهند المرتبة الأولى في مطالعة الكتب؛ فالهنود هم الأكثر قراءة، وفي المتوسط، يقرؤون لمدة 10 ساعات و42 دقيقة كل أسبوع. متجاوزون بذلك الدول الأوروبية والولايات المتحدة التي كانت تتصدر في هذا المجال الفكري، ثم أتت الصين في المرتبة الثانية، ثم تايلند في المرتبة الثالثة؛ وكلها دول آسيوية تنتمي للعالم النامي، بينما كانت الدول الأوروبية كبريطانيا والدول الاسكندنافية في شمال القارة، تحتكر المراكز الأولى للقراءة لسنوات طويلة. فعندما كنتُ طالبا في بريطانيا؛ استغربت من الإنجليز المولعين بالثقافة، خاصة فتح الكتب للمطالعة أثناء انتظار إشارات المرور وهم يقودون سياراتهم، معلنين بذلك إدمانهم للقراءة، واكتسابهم هذه العادة الحميدة التي نفتقد إليها نحن العرب من المحيط إلى الخليج. كذلك أثناء آخر زيارتي لبريطانيا لاحظت محافظة الإنجليز على عادة القراءة خلال رحلة القطار من جنوب إنجلترا إلى لندن. ومتوسط قراءة الفرد الأوربي يبلغ نحو 270 ساعة سنويًا، بينما معدل ما يقرأه الفرد في أرجاء العالم العربي لا يتعدى 6 دقائق في السنة. ويعود هذا الواقع المُر؛ للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن أسباب تراجع العرب عن غيرهم من الأمم انشغال الأسرة العربية لساعات طويلة بالبرامج التلفزيونية؛ الترفيهية والمسرحيات الكوميدية، التي تضيع الوقت، وتخدر العقل، وتبعد الإنسان عن الواقع؛ لأنها تفتقد للمضمون الثقافي الجيد الذي يسلي النفس ويقدم الحلول في نفس الوقت؛ ففي دول الخليج على وجه الخصوص هناك من أدمن مشاهدة المسلسلات الأجنبية وخاصة المدبلجة منها، ويحول الليل إلى نهار في السهر إلى ساعات الفجر، بعيدا عن ثقافة المطالعة التي يمكن أن تفتح لنا آفاقًا رحبة في الفكر والتأمل وفهم الحياة من حولنا. أين نحن اليوم من قول الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي منذ قرون عديدة عن مكانة الكتاب في قوله "أعز مكان في الدنيا سرج سابح // وخير جليس في الزمان كتاب".

وكذلك أزمة التخلف الثقافي التي يعاني منها الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج، كانتشار الأمية التي تقدر بنسبة 25 بالمائة حسب التقرير الاقتصادي العربي لعام 2022 وبذلك تفوق مثيلاتها في جميع الأقاليم، باستثناء إقليم جنوب الصحراء الافريقية، والأهم من ذلك كله قلة المكتبات العامة، والترجمة إلى العربية، وقلة الدعم الحكومي للبحوث والتأليف. أما من ناحية عدد الكتب المنشورة في بلد ما للعام الماضي 2024؛ فقد تصدرت الولايات المتحدة الأمريكية المركز الأول بأكثر من 270 ألف كتاب، بينما احتلت الصين الشعبية المركز الثاني بأكثر من 200 ألف كتاب في السنة. وقد احتلت المملكة المتحدة المرتبة الثالثة عالميًا بحوالي 188 ألف كتاب. وهكذا أتت "أمة اقرأ" في ذيل الأمم؛ فالمواطن العربي نصيبه ربع صفحة واحدة من القراءة في السنة، بينما معدل قراءة الأمريكي تجاوزت 17 كتابًا في السنة الواحدة، ثم يأتي المواطن الصيني بقراءة 16 كتبا سنويًا. فحسب تقرير اليونسكو، فإن عدد الكتب الورقية الثقافية العامة ذات المستوى الرفيع التي تنشر سنويًا في الوطن العربي قليلة جدًا وتصل في بعض الدول إلى مستوى متدني تقدر بعشرات الكتب اليتيمة فقط.

وفي الختام.. إنَّ حاجة المجتمعات العربية إلى الترجمة من الإنجليزية والفرنسية والصينية إلى لغة الضاد أصبحت من الضروريات، كذلك دعم الإنتاج الفكري من البحوث والكتب وفتح المكتبات العامة من الأولويات التي يجب أن تنفذ من قبل الحكومات العربية بأسرع وقت ممكن؛ لمحاربة الجهل والاستبداد والتخلف الفكري. كما إن حرية التعبير والتشجيع على الابتكار والولوج إلى عالم الابداع وغزارة الإنتاج الفكري الذي يخاطب ويعبر عن قيمنا وثقافتنا الاسلامية بهدف تعريف شعوب العالم قاطبة، يجب أن يكون من أساسيات هذه المرحلة.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

الأكثر قراءة