خالد بن حمد الرواحي
بين فائض الميزانية وقلق المعيشة… أين يسكن النمو الحقيقي؟
في كل عام، تُعلن التقارير الاقتصادية مؤشرات نموٍّ مبشّرة، وتتناقل العناوين أخبار الفائض المالي في الميزانية العامة. تبدو الصورة على الورق مشرقة، وكأن الاقتصاد يسير في طريقٍ صاعدٍ لا نهاية له. ومع ذلك، يهمس الناس بسؤالٍ بسيطٍ لكنه عميق: أين نشعر بهذا النمو؟ فالمواطن الذي يوازن بين دخله ومصاريفه لا يرى في تلك الأرقام ما يخفّف عبءَ الحياة اليومية أو يزرع في نفسه يقينًا بأنَّ الغد أفضل من الأمس. هنا تتجلّى المفارقة بين نموٍّ رقميٍّ يحتفل به الإعلام، وركودٍ شعوريٍّ يعيشه الناس في تفاصيل حياتهم.
ولفهم هذه المفارقة على حقيقتها، يكفي أن نقترب قليلًا من المشهد اليومي. ففي مساءٍ عادي، يقف أبٌ لثلاثة أطفال أمام رفوف أحد المحلات، يحدّق في الأسعار التي ارتفعت بصمتٍ لم يُعلن. يحسبها في رأسه مرّة، ثم يعيد الحساب ثانية، وكأنَّ الأمل وحده قادر على سد الفجوة بين الراتب والاحتياجات. في طريق عودته، يسمع في نشرة الأخبار عن فائضٍ ماليٍّ جديد، فيبتسم بمرارةٍ لا تُرى، ويتمتم في نفسه: أين يسكن هذا الفائض؟ في الجيوب أم في دفاتر الأرقام؟
من هنا تتضح الصورة أكثر: الفائض المالي لا يعني بالضرورة تحسّنًا فوريًا في مستوى المعيشة. فكثيرٌ من فوائض الميزانيات يُوجَّه لتسديد الديون، أو تمويل مشاريع طويلة الأجل، أو دعم الاحتياطيات الوطنية؛ وهي أولويات لا غنى عنها لحماية الاستقرار والمستقبل. لكن أثرها لا يصل إلى المواطن بسرعة، فيبقى الإنفاق الجاري على الرواتب والخدمات خاضعًا لضوابط الترشيد والإنفاق الحذر. وهكذا تستمر الفجوة بين نمو المؤشرات ونمو الشعور، ويقرأ الناس أرقام التحسّن دون أن يلمسوها في تفاصيل يومهم.
وفي هذا السياق، جاءت رؤية "عُمان 2040" لتضع الإنسان في قلب التنمية، وتؤكّد أن الرفاه لا يُقاس بالأرقام وحدها، بل بمدى انعكاسها على جودة الحياة. تسعى الرؤية إلى بناء اقتصادٍ متنوّعٍ ومستدام يوازن بين النمو الكلي ورفاه المواطن. ومع أن الطريق طويل، إلّا أنّ ترجمة الطموحات تتطلّب أن تتحوّل الفوائض المالية إلى مبادراتٍ وبرامج ملموسة تُعزّز الثقة بين ما يُعلن في المؤشرات وما يعيشه المجتمع في واقعه اليومي. وعندما تتقاطع الأرقام مع الأثر المعيشي، يتحقّق جوهر الرؤية في "اقتصادٍ مزدهرٍ وإنسانٍ مُمكَّنٍ يعيش في مجتمعٍ مستدام".
ومن هذا المنطلق، قد لا يكون التحدّي في تحقيق النمو بقدر ما هو في توزيعه بعدلٍ واتّزان. فالأرقام مهما ارتفعت لا تكفي إن لم تتحوّل إلى فرص عمل، وخدماتٍ أجود، وبيئةٍ اقتصادية تمنح الناس شعورًا بالاستقرار. ما يحتاجه المواطن ليس بياناتٍ مطمئنة فحسب، بل سياساتٍ تجعل الطمأنينة واقعًا ملموسًا: تحسين جودة الخدمات، وتوسيع مظلة الأمان الاجتماعي، وتعزيز القوة الشرائية. فالنمو الحقيقي لا يُقاس بما يُقال في نشرات الأخبار؛ بل بما يشعر به الإنسان في بيته ومكتبه وسوقه وطموحه اليومي.
وفي نهاية المطاف، يبقى الاقتصاد وسيلةً لا غاية، والأرقام لا تكتسب قيمتها إلا بقدر ما تُضيفه لحياة الإنسان. فالنمو الذي لا يُشعر الناس بالأمان المالي ولا يبدّد قلق الغد هو نموٌّ ناقص مهما بلغت نسبته. وحين يضيق الفارق بين فائض الميزانية ورضا المواطن، نكون قد بدأنا مرحلة النمو الحقيقي؛ النمو الذي يُقاس بالطمأنينة في البيوت، لا بالأرقام في الجداول، وبالقدرة على العيش الكريم، لا بعدد الصفقات أو الفوائض. عندها فقط، يمكن القول إننا نمونا فعلًا.