د. محمد بن خلفان العاصمي
يخلط الكثيرون بين حرية التعبير وبين إساءة انتقاء الكلمات، وبالتالي الوقوع في المحظور والإساءة للآخر، والتعرض لمخالفة القوانين وما يترتب عليه من تبعات جزائية، ويقع الإنسان في ذلك إما نتيجة جهل أو لا مبالاة أو حب للظهور، وربما كان مجال الوقوع في الخطأ سابقًا ضيقًا وخاصة قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الحديث، وكانت الإساءة تتحقق بوسائل محدودة، أما اليوم فقد توسع نطاق ذلك وأصبح الجميع معرضاً لذلك إن لم يحسن التعامل مع الوسائل الحديثة المتاحة.
لقد حفظت القوانين العامة في سلطنة عُمان الحقوق والواجبات ونظمت العلاقات بين الأفراد وبينهم وبين المؤسسات؛ سواء العامة أو الخاصة، هذه العلاقة التي أُسِّست على أساس الاحترام الواجب للحقوق والقيام بالواجبات، ولم يعد هناك مجال للاجتهاد في هذا الجانب، ويأتي النظام الأساسي للدولة على رأس هذه القوانين؛ حيث اشتمل على مواد بينت حدود السلطة وجميع الجوانب التي تحفظ للمواطنين كرامتهم وتضمن لهم العيش في بيئة مستقرة آمنة، وأقرت حق الأفراد في حرية التعبير عن آرائهم وفق ما أقرته القوانين وبما لا يتعارض معها.
إنَّ الخط الفاصل بين النقد والإساءة رفيع جدًا ورغم ذلك هو واضح وضوح الشمس؛ فالنقد الذي يقوم على أساس الإصلاح وتقويم الاعوجاج مطلوب وهام لنمو المجتمع وتطوره وسبيل للرقابة على المؤسسات إذا ما مورس بطريقة سليمة، وهو معين لأصحاب القرار؛ فقد يفوتهم أمر ما داخل مؤسساتهم، وهناك مؤسسات تتبع كل نقد لتقوم بمعالجته وحلحلته، وهذا سلوك المؤسسات التي تنشد التطور والإبداع في عملها. أما الإساءة؛ فهي حُجة الضعيف الذي لا يملك الفكر لتقديم حلول وإنما فقط تقع عينه على كل عيب ويسلط عليها عدسته المكبرة مستخدمًا أقبح ما يملك من رصيد لغوي ضحل لا يسعفه إلّا على البذيء من الكلام.
لقد ابُتليت المجتمعات بفئة امتهنت الإساءة وتظن أنها تمارس حرية التعبير وتعشق البحث عن السلبيات بينما عيونها لا ترى الصورة الجميلة المحيطة بها، ولديهم فهم خاطئ حول حرية التعبير وما أقبح الإنسان صاحب البذاءة حيث ينفر الجميع منه، يقول الله تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، ويقول جل وعلا (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)، وهذا هدي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة التي يجب أن تكون منهجنا في الحياة والدين المُعاملة.
لقد أسهب البعض وانغمس في الإساءة لوطنه ومجتمعه والمسلمين، ظانًا بأنه يمارس حقه في النقد وحرية التعبير، ووقع الكثير منهم تحت طائلة القانون وربما أدرك البعض بعد فوات الأوان ما وقع فيه من أخطاء، وللإنصاف فإننا كمجتمع مسلم يجب أن نقف بقوة أمام هذا السلوك الدخيل حتى لا يؤثر على قيم ومبادئ وأخلاق المجتمع، وحتى لا نصل إلى ما وصلت إليه كثير من الشعوب التي تهاونت في مسألة القيم المجتمعية ووقعت في مطب حرية التعبير السلبي فلم يعد هناك احترام للكبير أو تقدير لولي الأمر.
إنَّ الانسياق خلف النقد السلبي ومدعي الإصلاح والمطالبين بحرية الرأي وفق مفهومهم يوقع الإنسان في الخطأ، ولا يعفيه جهله بالقانون من العقوبة، ولذلك على كل فرد أن يضبط سلوكه وأن يعرف حدود الرأي والفرق بين الإساءة والاتهام والتشهير وبين حرية الرأي والتعبير والنقد الإيجابي، وهذه مسؤولية فردية ووعي أخلاقي ملزم لكل مواطن. والأمر لا يقتصر على الكتابة والحديث؛ بل حتى التفاعل مع هذه الأصوات ومسايرتها يوقع الإنسان في دائرة الشك، وعلينا أن نحرص بشكل أكبر في تعاملنا مع وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تنشر الإشاعات والإساءة بسرعة جنونية.
إنَّ المجتمع الذي لا يمارس النقد لا يتطور ولا يتقدم، وهو أمر واقع ولكن ما هو النقد المقصود هنا؟ وما حدود حديث الإنسان في الأمور العامة؟ ومتى ومن يمارس النقد؟ كل هذا مهم قبل الشروع في تناول القضايا المجتمعية وتقديم رؤية حولها، فلا يعطي الإنسان نفسه الحق في الحديث عن أمر يجهله وقد قالت العرب "من تحدث في غير ميدانه أتى بالعجائب"؛ فأحذر أن تكون ثرثارًا تخطب في كل ميدان ومجال، وتهرف بما لا تعرف، وتخوض مع الخائضين، وتُقاد كما ينقاد الجاهل إلى حافة الهاوية دون وعيٍ أو إدراك.