الأهداف الذكية بين التطوير والتخدير

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

 

حين تُصبح الأهداف غامضة، يتحوّل التخطيط من أداةٍ للتطوير إلى وسيلةٍ للتخدير.

في ركنٍ أنيق بإحدى المؤسسات، تتدلّى لوحة تحمل شعارًا لامعًا: «الريادة في جودة الأداء المؤسسي». تمرّ الأعوام، وتُعقد الاجتماعات، وتُكتب التقارير، لكنّ أحدًا لا يعرف ما المقصود بالريادة أصلًا، ولا كيف تُقاس جودة الأداء التي تتغنّى بها اللوحة كل صباح. في الاجتماعات تتكرّر الكلمات ذاتها: تحسين، تطوير، تميّز، استدامة… لكنها تبقى عائمةً بلا معيارٍ ولا زمن؛ فتتحوّل من بوصلةٍ للتغيير إلى مُسكّنٍ إداريٍّ يخفّف الإحراج ولا يعالج الخلل.

كثيرٌ من الخطط المؤسسية تبدأ بعناوين براقة وتنتهي بعبارات إنشائية تُرضي الجميع ولا تُلزم أحدًا. تُكتب الأهداف بلغةٍ جميلة لكنها فضفاضة، مثل «تحسين بيئة العمل» أو «الارتقاء بجودة الخدمات»، من غير أن يُحدَّد ماذا يعني التحسين تحديدًا، أو كيف تُقاس الجودة، أو متى يُفترض أن يتحقق ذلك. وهكذا تتحوّل الأهداف إلى عبارات مطاطية يسهل ترديدها في الاجتماعات ويصعب قياسها في الواقع. ومع مرور الوقت، يتعوّد الموظفون على سماعها حتى تفقد معناها، فتنشأ حالة من التخدير الإداري؛ إذ يسود شعورٌ زائف بأنَّ المؤسسة تسير في الاتجاه الصحيح لمجرّد أنّ لديها خطة مليئة بالكلمات الكبيرة.

وحين تغيب الأهداف الدقيقة، تتآكل روح العمل شيئًا فشيئًا. فالموظف لا يعرف ما المطلوب منه تحديدًا، والمدير يكتفي بترديد الشعارات، والإدارة العليا تظنّ أنَّ وجود الخطة يعني التقدّم. ومع غياب المقاييس، لا يعود بالإمكان التمييز بين من أنجز ومن لم يُنجز، فيتساوى الجميع في التقييم والنتائج. وهنا تبدأ فجوة الثقة بالاتساع بين الخطط المُعلَنة والنتائج الملموسة، وتتحوّل التقارير السنوية إلى احتفالٍ بالأرقام لا بالأثر. وبمرور الوقت تتثبّت حالة من «التخدير الإداري»؛ كلّ شيء يبدو على ما يرام في الأوراق، بينما الواقع لا يتحرّك خطوةً واحدة إلى الأمام.

ولكي ننتقل من التخدير إلى التطوير، ينبغي أن نتحدث بلغةٍ أكثر دقّة تُترجِم الطموح إلى أفعال. هنا يأتي مفهوم الأهداف الذكية (SMART Goals)؛ وهو عبارة عن أهدافٌ محدَّدة، قابلة للقياس، قابلة للتحقيق، واقعية، ومحدّدة زمنيًّا؛ فبدل أن نقول «تحسين بيئة العمل»، يمكن أن نصوغ الهدف مثلًا: رفع نسبة رضا الموظفين إلى 85% بنهاية العام القادم عبر تطوير سياسات التحفيز الداخلي. هذا النوع من الأهداف لا يترك مجالًا للتأويل أو المبالغة؛ لأنّه يربط الطموح بالنتيجة، ويحوّل الكلمات إلى التزامٍ قابلٍ للمتابعة والمساءلة.

إنّ تحويل الأهداف إلى واقعٍ ملموس لا يتحقق بمجرد تبنّي نموذجٍ إداري متطوّر، بل بترسيخ ثقافة القياس والمساءلة داخل المؤسسة. فكل هدفٍ ذكي يحتاج إلى مؤشر أداءٍ واضح يُظهر مدى التقدّم، وإلى جدولٍ زمني يربط الموارد بالنتائج، وإلى آلية متابعةٍ دورية تُعيد تصويب المسار عند الحاجة. كما ينبغي أن تكون عملية تحديد الأهداف تشاركية يشارك فيها الموظفون، لا أن تُفرض عليهم من الأعلى؛ فالمشاركة تولّد الالتزام، والالتزام يصنع الأثر. وحين تصبح الأهداف جزءًا من الوعي اليومي، تتحوّل من وثيقةٍ على الورق إلى سلوكٍ مؤسسيٍّ حيّ يقيس النجاح بالأرقام لا بالانطباعات.

في النهاية، لا يُقاس التميّز بعدد الخطط ولا بجمال العبارات؛ بل بقدرة المؤسسة على تحويل الرؤية إلى واقعٍ يُلمَس. فالتخطيط الحقيقي لا يُخدّر الوعي؛ بل يُوقظه، ولا يزرع الأمل الوهمي، وإنما يبني خطواتٍ قابلةً للقياس.

والأهداف الواضحة ليست ترفًا إداريًا، لكنها شرط أساسي لأيّ نهضةٍ أو تطوير. لذلك، كلّما كانت الغايات محدّدةً والمقاييس شفافة، اقتربت المؤسسات من الحقيقة وابتعدت عن الشعارات؛ فالطموح الذي لا يُقاس يظلّ أمنية، والهدف الذي لا يُتابَع يبقى حلمًا مؤجّلًا.

الأكثر قراءة