مُزنة المسافر
الباز طار طيرانًا فوق الرؤوس، إنه يُعلي النفوس، إنه يصنع المجد، إنه هناك في هواء الوجد، يحط حيثما يشاء، ويسافر ببنود النيل وتعاليم المعبد، فهل طار بعيدًا عن القلوب؟
نادوا عليه الآن ليقيم العدالة.
المقهى يعُج بالأحاديث الطازجة أهمها هجوم بعض الخواجات على قفص للحمام أو الفراخ، وقد زادت الحوادث مؤخرًا، ولم يكن هنالك من غفل عن غرور أي خواجة يحاول قنص الدواجن للتسلية.
صاحب المقهى: شاي يا عبدالرؤوف؟
عبدالرؤوف: قهوة وسط.
صاحب المقهى: ما الذي يؤرقك؟
عبدالرؤوف: أهل الحقل من الفلاحين قد باتوا كسالى ولا يعجبهم العجب.
تذكر عبدالرؤوف نفوس الفلاحين المُحطَّمة، هم يعملون ليل نهار، والماهيَّة غير كافية لسد الرمق، كيف سيقول لعزمي بيه عن تمرد البعض؟
عاد عبدالرؤوف لمنزل العريش، ونفسه تُخبره أن عزمي بيه لا ينوي إصلاح شيء. نعيمة تسأله عن حاله، وأحمد ومريم يسلمان على والدهما.
نعيمة: جرى إيه يا عبدالرؤوف، مالك؟
عبدالرؤوف: عزمي بيه ليس في مزاج سيء.
نعيمة: إنه دائمًا هكذا، مُتقلِّب.
عبدالرؤوف: لا هذه المرة الموضوع مختلف.
نعيمة: تمنى الخير، ربنا موجود.
عبدالرؤوف: أمال فين نوسة؟
نوسة تشخر أسفل شجرة البرتقال شخيرًا بسيطًا، أنفاسها هنا، وأفكارها في المدينة العريضة، هل ستذهب إلى الشوارع والأزقة الكبيرة؟ وهناك ستكون أجنبية بقبعة جميلة، وهل سترحب ترحيب الفرنجية؟ وماذا لو صارت خواجة بالفعل؟ هل سيُطل رمزي بيه من البلكون ليرى ماذا تفعل نوسة في أحلام اليقظة التي لا تنتهي، ومن سيروي البرتقال؟
رمزي: يا نوسة!
نوسة: رمزي بيه، يا خراشي!
استفاقت نوسة، ما هذا النوم الذي يجعلها تنسى سقاية البرتقال، إنها تسهى وتنسى، تريد نوسة أن تهرب هروبًا كبيرًا ليس فيه رجعة، إلى المدينة التي فيها ألف صنعة.
لكن كيف ستهرب نوسة؟ وعروس النيل تُلاحقها، وتصنع لها الكوابيس وتقول إنها الفوانيس التي ستنير دربًا جديدًا من حياتها، هل سيكون الوصال مع المدينة قاربًا عظيمًا يحملها إلى عين النيل، وهل سيراها النيل جيدًا من هناك؟ وهل سيعتب على المدينة التي لها كل الهيلمان والتي تُبكي أبناء القرى الصغيرة فيضيعوا وسط ضجيجها، وتنصرُ أبنائها الواثقين في خطى ومن يمشون على طرقاتها بأحذية لامعة؟
ها يا نوسة هل أنتِ للنصيحة سامعة؟
رمزي: اسمعي يا نوسة، لن أخبر أحدًا أنكِ كنت تغطين في نوم عميق أسفل أشجار البرتقال.
نوسة: لم أكن نائمة.
رمزي: ماذا كنتِ تفعلين؟
نوسة: كنتُ أفكر فقط.
رمزي: في ماذا؟
نوسة: في.. في مقطوعتك الموسيقية الجديدة، نعم أنت أفضل شخص يفهم المزيكا.
كانت كذبة بيضاء يا نوسة، لا تُعيديها. عرف رمزي بيه أنها أحد أفكار نوسة المُختلَطة ببعض الكلمات المعسولة، إنها صادقة دومًا، وتقول الكلام من أجمل بقعة في قلبها الكبير، لكنها هذه المرة مرتبكة، ربما يا رمزي بيه قد تمكنت من أن تظهر أمامها كراجل قد تحتاج إليه في أيام الشدة.
مر النهار الطويل على خير، وقرَّرت نوسة العودة للمنزل قبل الغروب، عينها تلاحظ ظلًا يتبعها، هل هي عروس النيل؟ لا، إنه ظل حمدي المجنون، وهو سائر نحو الحقول، حاملًا فوق ظهره معولًا وحقيبة قماشية.
نوسة: ماذا تفعل يا حمدي يا مجنون؟
حمدي: مالكِ يا نوسة؟ تسألين كثيرًا، تعلمي الكتمان!
نوسة: سأخبر والدي أنك تدخل الحقل في هذا الوقت.
حمدي: مش فارقة معايا يا نوسة، أنا فعلًا مجنون!
راح حمدي وراح ظله معه، ماذا يفعل في الحقل؟ إنه يحمل في عقله غرابة المجانين، هل هذا هو انتقامه من الفُل الذي أثمر جيدًا هذه السنة، أم هو زعله المستمر من الأرض العادلة والمعطاءة، أم هو يائس كفاية أن يحفر قبرًا لنفسه؟
لكن قد يجيء أوزيريس ويحكم عليه من محكمة الموتى، ويرى البعث والحساب، وسيقول إن حمدي قد قاده الجنون إلى أفل نفسه، وقد تكون مشيئة السماء أن تُوقف عذابات روحه، ليجد الحياة من جديد كما وجدتها عروس النيل في ذلك الماضي البعيد.