خالد بن حمد الرواحي
حين يفقد التدريب غايته، يتحوّل من أداةٍ للتطوير إلى تذكرةِ استجمام، ومن فرصةٍ للنمو إلى بوفيه مفتوحٍ للأعذار.
في صباحٍ هادئ، يتجه موظفٌ إلى دورةٍ تدريبية أُدرج اسمه فيها قبل أسابيع. لا يسأل عن موضوع البرنامج أو أهدافه؛ بل عن الفندق الذي تُعقد فيه الدورة، وعن وجبات البوفيه ومواعيد الاستراحات. وفي المساء، يتداول زملاؤه الصور في مجموعة العمل، يصفون المكان بـ«الراقي» والمدرِّب بـ«المتعاون»، من غير أن يذكر أحدٌ ماذا تعلّم أو كيف سينعكس ذلك على أدائه. هكذا تحوّل التدريب في بعض المؤسسات من أداة تطوير إلى وسيلة ترفيه، ومن استثمارٍ في الإنسان إلى رحلةٍ لتغيير الجو.
في غير قليلٍ من المؤسسات، غاب المعنى الحقيقي للتدريب؛ فتحوّل من عمليةٍ لبناء القدرات إلى نشاطٍ جانبي يُدرج في الخطط السنوية لرفع الأرقام لا لرفع الكفاءات. وبدل النظر إليه بوصفه استثمارًا في رأس المال البشري، يُتعامل معه كوسيلةٍ لكسر الروتين أو مكافأةٍ للموظفين. تُختار البرامج أحيانًا بناءً على الموقع لا المضمون، ويُستدعى المدرِّب بحكم الحضور لا بحكم الأثر، حتى صار التدريب مرادفًا لـ«الراحة المؤسسية» أكثر منه مسارًا للتطوير. وهكذا يُهدَر المال على برامج لا تترك أثرًا سوى صورٍ جماعية وذكرياتٍ فندقية، فيما تبقى بيئة العمل على حالها بلا تغيير.
وحين يُفرَّغ التدريب من محتواه، لا تتأثر الموازنة وحدها، بل تتأثر معها ثقافة العمل بأكملها. فالموظف الذي يتعامل مع التدريب كإجازةٍ إضافية لن يعود إلى مكتبه بروحٍ متجددة أو بفكرٍ أعمق، بل بشعورٍ مؤقت بالراحة سرعان ما يتلاشى. ومع تكرار هذا النمط، تُصاب المؤسسات بـ«ركودٍ معرفي»؛ تُنفق مبالغ طائلة على برامج بلا مردود، وتستمر الأخطاء الإدارية بالتكرار، وتبقى الإنتاجية على حالها. والأسوأ أن تتحول الدورات إلى مساحةٍ للمجاملات أو لإرضاء التطلعات الشخصية، فتضيع الغاية ويتراجع المعنى.
والمسؤولية هنا لا تقع على الإدارة وحدها؛ فالمدرِّب شريكٌ في النجاح أو التعثّر. التدريب ليس فسحةً بين الاستراحات، بل مهمةٌ مهنية صارمة تتطلّب انضباطًا واحترامًا لوقت المتدربين وعقولهم. وحين يسمح المدرِّب بالمغادرة المبكرة أو يهوِّن من الالتزام، يرسل رسالةً مفادها أن الوقت أثمن من المعرفة. وبعض الإدارات تُضعف ثقافة التدريب دون قصد حين تختار برامجها بمنطق «التكلفة الأقل» لا بمنطق الجودة والأثر. لذلك ينبغي أن ينتقل منظور التدريب من «نشاط يُنفَّذ» إلى «أثرٍ يُقاس»، ومن حدثٍ عابر إلى عمليةٍ مستمرة تُنمّي الإنسان وتُقوّي المؤسسة معًا.
ولكي يعود التدريب إلى هدفه الأصيل، لا بدّ من ربطه بالنتائج لا بالحضور. فالموظف الموفَد إلى برنامج تدريبي ينبغي أن يُلزَم بتقديم تقريرٍ موجز يبيّن ما اكتسبه من معرفةٍ ومهارة، وأن ينقل خلاصة التجربة إلى زملائه عبر ورشةٍ داخلية أو عرضٍ تطبيقي. كما ينبغي إدراج نتائج التدريب ضمن تقييم الأداء السنوي، بحيث يُمنح الموظف تقديرًا حقيقيًا على ما أضافه من قيمةٍ لعمله، لا على عدد الدورات التي حضرها. ومن المهم أيضًا اعتماد تصنيفٍ واضح للبرامج والمدرِّبين وربط الاختيار بحاجات المؤسسة الفعلية، حتى يتحوّل التدريب من نشاطٍ شكلي إلى استثمارٍ منتِج في رأس المال البشري.
ومع تنامي الموازنات المخصَّصة للتدريب في مؤسسات الدولة، بات من الضروري أن تُقيَّم البرامج التدريبية المنفَّذة خلال الأعوام الماضية من حيث كفاءتها ونتائجها الفعلية، وأن تُقاس العوائد مقارنةً بالمبالغ المصروفة عليها. فالمتابعة الرقابية لهذا الجانب ليست غايةً مالية فحسب، بل ضمانٌ لاستدامة تطوير الكفاءات وتحقيق كفاءة الإنفاق العام، حتى لا تتحول ميزانيات التدريب إلى أرقامٍ بلا أثر.
التدريب ليس نزهةَ عملٍ ولا مُكافأةً عابرة؛ إنّه رحلةُ وعيٍ تزرع في الإنسان رغبةَ التعلّم وقدرةَ التغيير. وهو استثمارٌ صامت لا تُقاس عوائده في نهاية البرنامج، بل في سلوك الموظف بعد عودته إلى مكتبه. وحين يدرك الموظف أنّ كل ساعةٍ تدريبية فرصةٌ لصقل قدراته وخدمة مؤسسته ووطنه، يتغيّر معنى الحضور، وتتحول القاعة من مقاعد مملّة إلى مساحةٍ للنمو. عندها فقط يستعيد التدريب مكانته الحقيقية: جسرًا بين المعرفة والتطبيق، وبين الإنسان والإنجاز.