"طوفان الأقصى".. عامان من الصمود والنضال

 

 

 

خالد بن سالم الغساني

 

يصادف اليوم الذكرى الثانية لطوفان الأقصى، الحدث الذي هزّ أركان الكيان المحتل وغيّر معادلات القوة في المنطقة، وأعاد إلى الواجهة وبقوة، جوهر الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بوصفه صراعًا على الأرض والكرامة والحق التاريخي.

في السابع من أكتوبر 2023، دوّى صوت المقاومة من غزة معلنًا عن مرحلة جديدة من المواجهة، كسر فيها الفلسطينيون هيبة الجيش الإسرائيلي وأظهروا هشاشة منظومته الأمنية والعسكرية رغم التفوق التكنولوجي والدعم الغربي غير المحدود. ومنذ ذلك اليوم، يعيش الفلسطينيون تحت نارٍ لا تهدأ، بين القصف والدمار والحصار والتجويع، لكنهم لم يفقدوا إرادتهم ولم يرفعوا الراية البيضاء.

الصمود الفلسطيني في غزة خلال عامين من الحرب الهوجاء والحصار الأعمى، هو امتداد لصمود شعب لأكثر من 7 عقود، مورس عليه خلالها كل صنوف القتل وأبشعها، والتدمير والتهجير، إنه فعل وعيٍ سياسيٍّ ووطنيٍّ عميق، يعكس إصرار شعبٍ على مقاومة الإبادة والاقتلاع، ففي كل بيتٍ مهدّم، وعند كل أمٍّ تودّع أبنها شهيدًا، وكل طفلٍ يبحث عن لقمةٍ أو دواءٍ بين الركام، يتجلى المعنى الحقيقي للنضال الفلسطيني الذي لا ينفصل عن الإيمان بالحرية والعدالة وحقّ تقرير المصير. هذا الشعب الذي قدّم آلاف الشهداء وملايين المهجرين والمعتقلين، مصر على إيمانه بأن مقاومته هي الطريق الوحيد للحفاظ على هويته ووجوده فوق أرضه.

أما معنى الشهادة عند الفلسطيني، فهي موقفٌ أخلاقيّ ووطنيّ يتجاوز حدود الحياة الفردية ليصبح جزءًا من الذاكرة الجمعية للشعب. فالشهيد الفلسطيني هو تجسيدٌ لفكرةٍ كبرى، تؤكد أن الأرض لا تُستردّ إلا بالتضحية، وأن الكرامة أغلى من البقاء تحت الاحتلال. لذلك، فإن الشهادة ليست نهاية، بل استمرارٌ للحياة في وعي الأمة، ودليلٌ على أن الاحتلال مهما طال، لا يستطيع قتل المعنى الذي يحمله الشهيد في وجدان شعبه.

وفي مقابل أساليب التدمير اليومية التي تمارسها سلطات الكيان المحتل من قصفٍ واغتيالاتٍ وتهجيرٍ وهدمٍ وحصارٍ وتجويعٍ، تقف الولايات المتحدة بمختلف إداراتها شريكًا وداعمًا لهذه الجرائم، مانحةً الاحتلال غطاءً سياسيًا ودبلوماسيًا وعسكريًا يحول دون محاسبته أمام القانون الدولي. فهي تزوّده بالسلاح والتمويل والمعلومات الاستخباراتية، وتمنع صدور أي قرارٍ أمميٍّ يُدين جرائمه بحقّ المدنيين، وتُبرر القتل والدمار بذريعة حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس، هذا الانحياز المطلق يجعل الاحتلال أكثر جرأة في ممارساته، مطمئنًا إلى أن العالم الغربي سيواصل تبرير أفعاله وتجميل صورته مهما بلغ حجم المأساة.

وفي ظل هذا المشهد الدموي، تُطرح بين الحين والآخر مبادراتٌ سياسيةٌ تُقدَّم بلبوس السلام، لكنها في جوهرها تهدف إلى تطويق المقاومة الفلسطينية وإسكات صوتها. آخر هذه المحاولات تمثّل في المبادرة التي روّجت لها إدارة ترامب وما تبعها من صيغٍ مشابهة، ركزت على وقف إطلاق النار وفتح الممرات الإنسانية مقابل شروطٍ مجحفةٍ تقيد الإرادة الفلسطينية: إدارة مؤقتة لغزة، وقيود على السلاح، وتنازلات سياسية تُهمّش حقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة. هذه المبادرات، وإن رُوّج لها بوصفها حلولًا إنسانية، فإنها في حقيقتها وسيلة لإخراج القضية الفلسطينية من جوهرها السياسي وتحويلها إلى قضية معيشية مؤقتة، تكرّس واقع الاحتلال بثوبٍ جديد وتُبقي الفلسطيني تحت سيف المعادلات التي يصوغها الآخرون.

عامان على طوفان الأقصى كافيان لتأكيد أن إرادة الفلسطينيين لم تنكسر، وأن نضالهم لم يكن يومًا صرخة غضبٍ عابرة، بل مشروع حريةٍ ممتدّ في الوعي والوجدان. فمهما اشتدت آلة القتل ومهما طال الحصار، تبقى البندقية الفلسطينية رمزًا لحقٍّ لا يسقط، وشاهدًا على أنَّ الكرامة لا تُقايض بالخبز، وأن الأرض لا تُستبدل بوعودٍ أو اتفاقاتٍ تُكتب تحت سقف القوة. فسلامٌ بلا عدالة لن يكون سوى هدنةٍ هشةٍ فوق رمادٍ مشتعل، والشعوب التي تعلّمت الصمود قادرة على أن تكتب مستقبلها مهما تآمرت عليها القوى وأُغلقت في وجهها الأبواب.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة