آمنت برب الطوفان

 

 

هند الحمدانية

"بسم الله مجراها ومرساها..." هكذا قالها القائد وهو يُحدق في البحر المُمتد أمامه، كأنَّه يرى في غياهب موجه ملامح المعركة الأخيرة، لم يكن نوحًا، لكنه كان يُؤمن بنفس الرب الذي أنقذ نوحًا من الغرق، أدار وجهه نحو غزة وقال: "نبحر على اسم الله، لا على عددنا، ولا على سلاحنا"، ومن هناك، في فجر السابع من أكتوبر بدأ الطوفان.

رجال خرجوا من عُمق الأرض، من الأزقة الضيقة، ومن الأنفاق التي حفظت أسرارهم وأوجاعهم، ومن خلفهم غزة، تبارك طريقهم وتغسل وجوههم بالعزة والكرامة، وكلما اشتعل البحر نارا، وكلما غمر الطوفان وجه الأرض، كانت تصيح فيهم: "إن تنصروا الله ينصركم ويُثبت أقدامكم".

عامان مرَّا منذ أن اشتعل غصن الزيتون غضبًا وفاض الطوفان، ومنذ أن قررت غزة أن تمتحن أهل الأرض جميعًا: من ينجو بإيمانه ومن يغرق بخيانته وعجزه. عامان من النار والخذلان، ومن الظلم والطغيان، عامان والبحر لم يهدأ، والعالم لم يسكت عن العهر والصراخ: كيف تجرأ هؤلاء الفتية على المُقاومة؟ لكن ربهم الذي في السماء علمهم أنَّ الطوفان لا يأتي ليُغرق المؤمنين؛ بل ليُغرق الأكاذيب، ويُطهِّر الأرض من الطغاة.

عامان مرَّا وما انطفأت النَّار بعد، عامان من الغبار والوجع، من أصوات الانفجارات ومن الصمت العربي الذي صار أثقل من الدخان، عامان وما زال الأطفال يُقتلون في أحضان أمهاتهم، وما زالت البيوت تهدم كأنها لم تكن، وما زالت السماء تحصي عدد الشهداء والمفقودين، عامان من الإبادة التي لا تخجل من عدسات الكاميرات، ومن الخذلان الذي صار سياسة، ومن جوع تجاوز حقوق الجار والجغرافيا، ليُصبح وصمة عار على الإنسانية.

عامان والعالم بدأ يستيقظ من سباته الطويل، بدأ يرى ما حُجب عنه عقودًا، لم تعد الأكاذيب تنطلي، ولا الروايات المُلفَّقة تصمد أمام صور الأطفال، ولا الإعلام المُزيَّف قادر على التعتيم على رائحة الإبادة الجماعية، الضمير العالمي الذي خُدِّر طويلًا بدأ يستعيد وعيه، وهذه بشائر النصر.

وفي خضم هذا الوعي المُتصاعد، انكشفت الوجوه التي كانت تختبئ خلف الأقنعة، وسقط القناع الأكبر عن وجه أمريكا، الشيطان الأعظم الذي لطالما أدعى الحرية والديمقراطية وهو يُمَوِّل القتل ويُدير المجازر من وراء الستار، انفضحت على الملأ وهي تمُد الكيان بالسلاح والمال والغطاء السياسي، تُبارك الموت في كل مؤتمر وتغسل الدماء ببيانات باردة، لم تعد الصورة قابلة للتجميل: أمريكا لم تكن يومًا وسيط سلام؛ بل الأب والراعي لكل جرائم الاحتلال.

عامان والعالم تغيَّر، وسقطت الأكاذيب واحدة تلو الأخرى، لم يعد الاحتلال قادرًا على الاختباء وراء لغة الدبلوماسية، ولم تعد الشعوب تُصدِّق رواياته، لقد رأى العالم مالم يُر من قبل، وسمع ما لم يُسمع.

ثم جاءت قافلة الصمود البحرية، كأنَّها فصل جديد في رواية الإنسانية، سفن صغيرة حملت على ظهرها قلوبًا عظيمة، جمعت الأحرار من كل الأوطان، ووضعتهم في وجه الخوف والرصاص، ومن بينهم الدكتورة أُمامة اللواتية، تلك الماجِدة التي تركت خلفها حياة آمنة لتُسجِّل موقفَ شرفٍ لا يُنسى، اختارت أن تكون ضميرًا حيًّا سبَّاقًا الى الصفوف الأولى في وجه الطُغاة، لم تخش في الله لومة لائم، ولم تزن المواقف بميزان السلامة الشخصية؛ بل بميزان القيم التي آمنت بها.

اليوم.. وبعد عامين، لم يهدأ الطوفان كما ظنوا، ولم تخمد المقاومة كما أرادوا، ولم يخسر الفلسطينيون شيئًا؛ بل هي انتصارات متوالية رغم أنف الطغاة، فغزة التي أرادوا دفنها تحت الركام، دفنت أكاذيبهم تحت أنقاصها، وعرَّت وجوه الساسة والعملاء حين انكشفت الحقيقة أمام أعين الشعوب الغربية، تلك التي خرجت تهتف في الميادين، لا باسم مصالحها؛ بل باسم العدالة التي أيقظها الدم الفلسطيني.

وغدًا... حين يُرفع الأذان في الأقصى الشريف، وفلسطين قاطبة حُرَّة تتنفس النصر من الله، سيعلم الناس أنَّ الطوفان كان تطهيرًا لأرض المُسلمين والعرب، وأن وعد الحق لا يضل أهله، ولن يكون في القول أبلغ، ولا في الإيمان أصدق، من أن نرفع رؤوسنا إلى السماء ونقول: آمنَّا برب الطوفان.

الأكثر قراءة