خالد بن حمد الرواحي
في لحظةٍ غير متوقَّعة، يجد موظفٌ نفسه خارج أسوار العمل؛ بطاقةُ الصرّاف فارغة، والتزاماتُ البيت والمدرسة لا ترحم. يمدّ يده إلى منفعة الأمان الوظيفي علّها تكون الملاذ، لكنه يكتشف أنها استراحةٌ قصيرة في رحلةٍ أطول من القلق. يتقدّم السؤال إذًا: هل تكفي هذه المنفعة لحماية المسرَّحين، أم أنها وعدٌ لا يكتمل؟
لا تُثقل المنفعة كاهل الموازنة العامة للدولة؛ إذ تُموَّل عبر صندوق الحماية الاجتماعية من استقطاع نصف في المائة (0.5%) من رواتب وأجور العاملين في القطاعين العام والخاص. وهذا ما يجعلها أداةً تكافليةً بامتياز؛ يتقاسم فيها العاملون جزءًا من دخلهم لتأمين حماية قد يحتاجونها يومًا. لكن السؤال المشروع: هل تكفي هذه المساهمات مع اتساع حالات التسريح، أم أن موارد الصندوق ستواجه ضغطًا يهدد الاستدامة؟
حدّد قانون الحماية الاجتماعية الإطار العام؛ إذ نصّت المادة (119) على أن المنفعة تُصرف شهريًّا لمدةٍ لا تزيد على ستة أشهر (متصلة أو متقطعة)، وبقيمةٍ تعادل 60% من متوسط أجر آخر عامين، على ألا تقلّ عن 115 ريالًا عمانيًّا. أما اللائحة التنفيذية فقد تولّت تفصيل الجوانب الإجرائية المتعلقة بكيفية تقديم الطلب وصرف المنفعة، فنصّت على أن بدء الصرف مرتبط بتاريخ قبول الطلب من الصندوق لا بتاريخ إنهاء الخدمة. وهنا يبرز مأزق عملي؛ إذ قد يجد بعض المسرّحين أنفسهم في فراغٍ مالي بين إنهاء الخدمة وتاريخ بدء الصرف؛ الأمر الذي يفاقم أزمتهم في أصعب لحظاتهم.
ويبرز الشرط الأكثر جدلًا في البند الرابع من المادة (88) من اللائحة التنفيذية لقانون الحماية الاجتماعية، إذ يقيّد المستفيد بقبول الفرص الوظيفية الملائمة، مع عدم جواز رفض أكثر من ثلاث فرص، على أن يكون أجرها مساوياً لقيمة المنفعة أو أعلى منها. غير أن التطبيق العملي لم يعكس هذا النص بصورة شاملة؛ فبعض المسرَّحين لم تُعرض عليهم فرصٌ ملائمة أصلًا، فيما جاءت أخرى بأجور أدنى، وهو ما جعل عدد المستفيدين أدنى من العدد الحقيقي للمسرَّحين، وأثار جدلاً واسعًا حول الفجوة بين النص القانوني وواقع التنفيذ.
وقد انعكست هذه الضوابط على أرض الواقع بشكل مباشر؛ إذ وجد عددٌ من المسرَّحين أنفسهم فجأة خارج مظلة الدعم بعد وقف صرف منفعة الأمان الوظيفي لهم، ليبقوا بلا دخلٍ يغطّي احتياجاتهم واحتياجات أسرهم، في مواجهة وضعٍ مالي وإنساني بالغ الصعوبة.
ولم يبقَ الجدل في أروقة المجتمع فحسب؛ بل وصل صداه إلى مجلس الشورى؛ حيث عبّر عدد من الأعضاء، ومن بينهم سعادة الدكتور محمد بن ناصر المحروقي عضو مجلس الشورى ممثل ولاية سناو، عن قلقهم من إيقاف صرف المنفعة، ودعوا إلى تجميد القرار ومراجعته بالشراكة مع الجهات المختصّة. وقد شدّدوا على أن أي نظام للحماية الاجتماعية يجب أن يقوم أولًا على تعزيز الثقة والعدالة المتبادلة، لا على مضاعفة معاناة الفئات الأكثر هشاشة.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن المنفعة منحت المسرَّحين قدرًا من الطمأنينة، وأرسلت رسالةً مفادها وجود مظلّة حماية تنتظرهم؛ لكنها تبقى جسرًا قصيرًا لا يوصل وحده إلى الضفّة الأخرى. ويحذّر بعض الخبراء من أن الاعتماد المفرط عليها قد يخلق اتّكالية بدل أن يكون حافزًا للبحث عن فرص جديدة أو تطوير مهارات. وفي تجارب دولية، رُبطت منافع الأمان الوظيفي ببرامج تدريبٍ إلزامية، لضمان أن الدعم المالي يقترن بـإعادة تأهيلٍ مهني يسرّع العودة إلى سوق العمل.
الخلاصة.. إن منفعة الأمان الوظيفي خطوةٌ جريئةٌ في مسار الحماية الاجتماعية، لكنها وحدها لا تكفي. المطلوب اليوم مراجعةٌ دورية للضوابط، وتوسيع مظلّة المستفيدين، وتسريع عرض الفرص الملائمة وفق النص، وربط المنفعة ببرامج دعم الأجور والتدريب على رأس العمل وإعادة التأهيل المهني، مع شفافيةٍ أكبر في نشر بيانات المسرَّحين وأعداد المستفيدين. عندها فقط تتحوّل المنفعة من حلٍّ قصير المدى إلى سياسةٍ استراتيجية توازن بين إنسانية الحاجة وحسابات المال، وتُسهم في بناء سوق عملٍ أكثر عدلًا واستقرارًا، بما ينسجم مع روح رؤية "عُمان 2040".
المٌسرَّحون لا يحتاجون مجرّد جسرٍ قصير يعبرون به قلق اليوم، بل إلى طريقٍ آمن يقودهم إلى غدٍ أكثر استقرارًا وعدالة. فالوظيفة قد تُسلب من الإنسان يومًا، لكن الكرامة لا ينبغي أن تُسلب أبدًا.