ألم تلد البطون العربية من يحكم بلدًا عربية؟

عباس المسكري 

ألم تلد الأرحام العربية رجالًا يحملون همّ الأمة ويذودون عن أرضها؟ أأضحى قدرنا أن نستورد من وراء البحار من يقود حاضرنا ويقرر مستقبلنا؟ ما أشد مرارة اللحظة حين يصبح قبول الوصاية الأجنبية خيارًا مطروحًا على أرضٍ عُجنت بالدماء، وتاريخٍ كتبته التضحيات والشهداء ، فغزة التي صمدت في وجه القصف والحصار، والتي أنجبت مقاومين وقادة، كيف يُقال إنها عاجزة عن إدارة شؤونها إلا بحاكم غربي غريب؟

وصاية غربية على غزة ، وما تسرّب من مقترح أميركي–غربي بتعيين توني بلير مسؤولًا عن إدارة غزة في مرحلة إنتقالية يعيد إلى الأذهان صورًا قديمة من الإنتداب والوصاية ، وكأن الفلسطينيين، الذين قدّموا آلاف الشهداء وصمدوا في وجه العدوان والحصار، عاجزون عن حكم أنفسهم أو إعادة إعمار أرضهم إلا عبر حاكم أجنبي يُفرض عليهم.

ما يوجع في هذا المشهد ليس فقط المقترح ذاته، بل ما يكشفه من حال عربي بات يراوح بين العجز والتسليم ، وأن يُطرح اسم بلير لإدارة غزة، ولا يُقابل بعاصفة رفض رسمي وشعبي، فذلك دليل على ما بلغناه من هوان ، وكأننا فقدنا القدرة على الغضب، أو تبلّدت فينا الحواس تجاه الإهانة ، فبعض العواصم العربية تتعامل مع الفكرة وكأنها حلّ واقعي، لا كابوسًا سياسيًا، وكأنها نسيت أن الوصاية ليست مخرجًا بل سقوطًا أخلاقيًا ، وهذا الضعف ليس وليد اللحظة، بل هو تراكم سنوات من التنازل، والتعوّد على أن تُدار قضايانا من الخارج، وأن يُصاغ مستقبلنا في غرف مغلقة لا نملك فيها لا صوتًا ولا حقًّا ، وإن أخطر ما في هذا الطرح ليس بلير، بل القابلية العربية لقبوله.

بلير والعراق جرح مفتوح ، فاسم توني بلير ليس جديدًا على الذاكرة العربية ، وهو الرجل الذي قاد مع واشنطن غزو العراق عام 2003 تحت ذريعة أسلحة دمار شامل لم تثبت أبدًا ، وكانت النتيجة تدمير بلد كامل، تشريد الملايين، وإدخال المنطقة في فوضى ما زالت تدفع ثمنها حتى الآن ، فهل يُعقل أن يُكلف من كان شريكًا في الخراب بمهمة إعمار غزة؟

الطرح لا يبدو أميركيًا خالصًا، بل إن السياسة البريطانية الباردة، التي تجيد تحريك الخيوط من خلف الستار، هي من أوحت لترامب بهذا الاسم تحديدًا ، وبلير ليس خيارًا عشوائيًا، بل هو إمتداد لنهج بريطاني قديم في إدارة الأزمات عبر أدوات ناعمة، تُلبس الإحتلال ثوبًا دبلوماسيًا، وتُعيد إنتاج الوصاية تحت مسمى "المرحلة الانتقالية" ، وما كان لترامب أن يطرح هذا الإسم لولا أن لندن همست في أذنه، ودفعت به إلى الواجهة، لتعيد إنتاج دورها التاريخي في المنطقة، ولكن هذه المرة عبر بوابة غزة.

تجربة سلام لم تنجح ، حين تولى بلير منصب مبعوث اللجنة الرباعية للشرق الأوسط بين 2007 و2015، لم يرَ الفلسطينيون ثمارًا حقيقية لعمله ، والاستيطان ازداد، والإحتلال تعزز، والوعود تبخرت ،فبدت مهمته أقرب إلى غطاء دبلوماسي لإدارة الأزمة بدلًا من السعي لحلها ، وهذه التجربة وحدها تكفي للتشكيك في صدقية أي دور جديد يقترح له.

غزة ليست ملفًا إنسانيًا ، وإختزال غزة إلى مجرد قضية إغاثة وإعمار هو خيانة لحقيقتها وطمس لجوهرها ، فهي ليست مشروعًا إنسانيًا تديره لجان دولية، بل قضية تحرر وطني لشعب يناضل من أجل أرضه وكرامته ، والحديث عن "إدارة انتقالية" ليس إلا ستارًا يُراد به إبعاد البعد السياسي وتحويل المقاومة إلى مجرد مأساة إنسانية تنتظر حلولًا مؤقتة ، واليوم غزة، فغدًا من؟ وهل سنستيقظ لنرى بلداننا وقد تُدار بشياطين الغرب، يعيدون إستنساخ وصاياتهم القديمة بثياب جديدة؟

الأرحام العربية لم تعقم ، والمؤسف أن بعض الأصوات العربية باتت تتعامل مع الفكرة وكأنها قدر لا مفر منه، وكأن الأرحام العربية لم تعد تنجب القادة ، لكن غزة نفسها أكبر رد ، أرض أنجبت القسام وأبو جهاد وأجيالًا من المقاومين والمفكرين ليست بحاجة إلى حاكم غربي ، والأمة التي أنجبت عمر المختار وعبد الكريم الخطابي قادرة على أن تفرز قادتها اليوم أيضًا.

الكرامة فوق الإعمار، نعم ، غزة تحتاج إلى إعمار بعد الدمار الكبير، لكن ما تحتاجه أكثر هو الكرامة والسيادة ، لا وصاية غربية ولا إدارة أجنبية قادرة على أن تمنح الفلسطينيين حقهم ، فهذا الحق يُنتزع بإرادة أبنائهم، ويُصان بدمائهم وصمودهم، لا بقرارات تصاغ في مكاتب لندن وواشنطن.

عباس المسكري

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة