مُزنة المسافر
هل يعلم رَع إله الشمس في خروجه المبكر أنه يوقظ اليوم كل الفلاحين والصنايعية ونساء الخلاخيل والقُلل بارزة فوق رؤوسهن، لابد من غدق الفل بالمديح والماء، المحاصيل كثيرة هذه السنة والتربة جيدة والماء عذب.
لم تتمكن نوسة أن تعقد منديل "أبو أُوية" جيدًا، الكُرات الملونة المدورة تأبى أن تقف جيدًا فوق رأسها، لازالت بالجلابية، إنها تنتظر فستانًا ما يجلبه لها رمزي بيه، وكم تمنت في اللحظة أن يكون لها أمور الخواجات تلك، القبعة والفستان والحزام الذي يشد الخصر.
ستكون آنسة من آنسات المدينة العريضة، وأحد أبطال مسرحية هزلية جديدة، يا لها من حياة، رز وعدس وقرف مستمر، لا من بُونبون وحلويات وسكاكر تجعل من حياتها أكثر حلاوة.
أمها تصدح وهي تعجن خبز النهار، تُعدِّه باستمرار وليس في الروتين القائم في منزل العريش شيء مُثير، نوسة تخرج بتبجح أمام والدتها، فتوبِّخها نعيمة.
نعيمة: ما كنتِ نمتِ لحد بكرة؟
نوسة: النهار لايزال طويلًا يا أمي.
نعيمة: لسانك طويل، يا ثُعبانة!
نوسة: قولي يا أمي، لماذا دائمًا بنات الخواجات بقبعات أنيقة؟
نعيمة: لماذا هذا الفضول الغريب؟
نوسة: أود أن أكون خواجية ليوم واحد فقط.
نعيمة: ليه مش عاجبك الفقر؟!
تذكرت نوسة أنَّ البيه الصُغيّر والبيه الكبير كلهم أكابر مثل الأهرامات يصمدون أمام أي شيء، لكن العيش وسط العريش يجعل الثبات صعبًا للغاية، فتجعلك الريح تميل لمن لا يميل سريعًا مثلك.
نوسة: الفقر والقرف سيان، صدقيني يا أمي.
هزت كلمات نوسة عن القرف صمود نعيمة أمام العجين، فكرت هل الحياة عاقبتها بعبدالرؤوف؟، لم يكن ضعيفًا في شبابه، كان حصانًا يصهل كلما مدت الظروف يدها اليسرى إليهم، كانوا يعيشون في أقصى اليمين الذي فيه هدوء ونعيم، والآن حياتهم صعبة، والدنيا لا ترحم.
عُصبت عينا رمزي بيه، وقرر البحث عن نوسة ربما خلف أشجار البرتقال، أين هي؟
رمزي: لا أستطيع إيجادكِ.
نوسة: لبستُ طاقية الإخفاء.
رمزي: بتهرجي؟!
أزال رمزي ما عصب عينيه للحظات، نظر نحو نوسة ومنديل "أبو أُوية" فوق رأسها، وشعرها يسافر سفرًا قصيرًا مع أية نسمة ريح تطلب منه أن يتمايل.
رمزي: كبرتِ يا نوسة.
نوسة: لم أكبر يا رمزي بيه لأن طعامي هو العدس، سأكبر جيدًا إن كنتُ أتناول أطباق كعك الفراولة كل يوم!
ضحك رمزي وقال لها أنها مضحكة للغاية، وأضاف أنه يود أن يؤلف مقطوعة موسيقية لمناسبة معينة، ويود منها أن تستمع للمعزوفة حين ينتهي منها، استغربت نوسة كيف أصبح رمزي بيه لطيفًا فجأة، إنه يقول الكلمات بهدوء مغاير عن الأمس، لقد كان يحب أن تنتبه له الدنيا جميعها، دون أن يعير نوسة اهتمامًا كبيرًا لما تحب وما تفعل، إنه ربما يتغير.
لم تأتِ عروس النيل اليوم، هل مكثت في الماء وصارت حورية بها أحد الزعانف؟ لقد صرخت وصدحت أنها لا تود الغرق، فهل ستغرق من جديد؟
لا بُد أن يناديها أحد، لا بُد أن يسألها أحد أمنية قد تحققها في اللحظة، مثل الفوانيس التي بها جنيٌ لا يعرف اليقظة، إلّا بعد أن تلمسه أيادٍ عابسة تود أن لا تكون في يوم يائسة.
فكّري يا نوسة ماذا تريدين؟
رمزي الآن مهتم بكِ سيقدم ما تشائين.
وماذا تريدين أيضًا؟
ألقت نوسة بجسدها داخل بركة البط، حامت وسطهم وشاكستهم وعاتبتهم للريش الذي يبللونه كثيرًا، قالت لهم البركة للجميع، لكنها تجرب الغرق كما غرقت عروس النيل في الماضي.
عروس النيل: ماذا تفعلين يا نوسة؟
نوسة: أجرِّبُ الغرق، شعرتُ أنكِ ستأتين فجأة.
عروس النيل: كنتُ مشغولة.
نوسة: بماذا؟
عروس النيل: هناك أخبار من مصر القديمة، وكنتُ هناك مع الباز الذي طار بي إلى زمننا.
زمنكم، هل الأزمان متقاطعة؟ كلٌ له مكانه وعنوانه في التاريخ، لماذا كان لا بُد أن تطير مستعجلة إلى هناك وأين هم الآخرون من زمنها؟ من سيصدق في القرية قصة عروس النيل هذه التي تتحدث مع نوسة، ولماذا نوسة بالذات؟ هل لأنها في العين محروسة ورَع ينوي أن تكون خطواتها في البلاد مدروسة.