خالد بن حمد الرواحي
حين يتخرَّج الشاب، يحمل في حقيبته أحلامًا أكبر من شهادته: أن يبني مستقبلًا يليق بتعبه، وأن يجد في الوظيفة مساحة لإبداعه. لكن مع مرور الوقت، تتبدل الصورة؛ إذ يحلّ الروتين مكان الشغف، وتصبح الترقية أمنية بعيدة، ليجد نفسه أمام سؤال مُلحّ: أين ذهب الحلم؟
في السنوات الأولى من التوظيف، يبدو الحماس وقودًا لا ينضب؛ فالموظف يدخل مكتبه مبكرًا، يتعامل مع مهامه كفرص للتعلّم، ويرى في كل إنجاز صغير خطوة نحو حلم أكبر. الطموح هنا لا يقتصر على الراتب أو المسمّى الوظيفي، بل يمتد إلى الرغبة في إثبات الذات وإيجاد موقع حقيقي في خريطة التنمية.
غير أن الحماس سرعان ما يصطدم بجدران الواقع؛ فالمكاتب المضيئة قد تُخفي روتينًا قاتلًا، والمهام المتكرّرة تبتلع الشغف شيئًا فشيئًا. يكتشف الموظف أنَّ القرارات تمرّ عبر مسارات معقّدة، وأن المبادرات الفردية كثيرًا ما تُواجَه بعبارة: «هذا ليس من اختصاصك». ومع مرور الوقت، تتراجع الأحلام الكبيرة أمام تفاصيل يومية مثقلة بالانتظار، لتنشأ فجوة بين ما طمح إليه وما تتيحه المؤسسة من فرص حقيقية للنمو.
الواقع حين يكبح الحلم تتجلّى آثاره في تفاصيل صغيرة لكنها مؤثرة؛ فالموظف الذي دخل العمل بطاقةٍ كبيرة، يجد نفسه بعد سنوات يقيس نجاحه بقدرته على إنهاء أوراق متراكمة، لا بمدى إسهامه في تطوير مؤسسته. وفي بيئة يغيب عنها التشجيع وتضيق فيها فرص المبادرة، تتحوّل الوظيفة إلى روتين يومي بلا معنى. هنا يفقد الموظف صلته الأولى بأحلامه، وتفقد المؤسسة أحد أهم مصادر قوتها: شغف الإنسان.
هذه الفجوة بين الطموح والواقع لا تمر مرور الكرام؛ فهي تترك أثرها في نفوس الموظفين وانعكاساتها على المؤسسات. فالإحباط يطفئ الحماسة الأولى، والانتماء يضعف كلما شعر الموظف أن جهده لا يجد صدى أو تقديرًا. بعضهم يبدأ في البحث عن بدائل خارجية — سواء بالانتقال إلى مؤسسات أخرى أو بالتفكير في العمل الحر— فيما يكتفي آخرون بأداء الحد الأدنى من المهام. والنتيجة واحدة: مؤسسة تفقد طاقتها الإبداعية وتكتفي بإدارة الروتين بدل صناعة التغيير.
لكن تضييق الفجوة بين الطموح والواقع ليس أمرًا مستحيلًا؛ فالمؤسسات التي تستثمر في موظفيها قادرة على تحويل الحلم إلى إنجاز. التدريب المستمر يفتح آفاقًا جديدة أمام الشباب، ومنح الصلاحيات والمسؤوليات يعيد للموظف إحساسه بقيمة جهده، فيما تضع المسارات الوظيفية الواضحة أمامه خريطة طريق تبيّن ما يمكن أن يحققه على المدى البعيد. وعندما يدرك الموظف أن المؤسسة تراهن على طموحه، فإنه يضاعف عطاؤه، ويجد في عمله معنى يتجاوز الراتب والمسمى الوظيفي.
فالطموح ليس شأنًا فرديًا فحسب؛ بل هو رافعةٌ للتنمية. الموظف الذي يملك حلمًا واضحًا، ويجد مؤسسةً تحتضن هذا الحلم، يصبح شريكًا مباشرًا في تحقيق المستهدفات الوطنية. وعندما تتبنّى المؤسسات سياسات تُحفّز الطاقات وتفتح أبواب التدرّج الوظيفي، فإنها لا تحافظ على كفاءاتها فحسب، بل تُسهم في خلق بيئة عمل جاذبة تعزّز الإنتاجية وتدعم مسيرة التنمية المستدامة.
في النهاية، يبقى الموظف هو الثروة الحقيقية لأي مؤسسة. فحين يجد بيئةً تُغذّي طموحه وتمنحه الثقة، يتحوّل من موظف عادي إلى قوة دافعة تبتكر وتضيف. إن الاستثمار في طموحات الشباب ليس خيارًا ثانويًا، بل هو استثمار في مستقبل الوطن نفسه؛ فالمؤسسة التي تحتضن أحلام موظفيها هي ذاتها التي تصنع غدًا أكثر إشراقًا لعُمان.