التحريض.. نار تلتهم القلوب والأوطان

محمد البادي

في عالم اليوم، أصبحت الكلمات أقوى من السيوف أحيانًا، إذ قد يُشعل حرف واحد فتيل الفوضى ويهز أركان الدول والمجتمعات. لم يعد التحريض مجرد همس أو كلام في زاوية مظلمة، بل أصبح أداة ممنهجة تُستغل لتحقيق مصالح شخصية وأجندات خفية، على حساب دماء الشعوب وأمنها ومستقبلها. فمن خلف الشاشات وبين الصفحات المجهولة، تُزرع الشائعات، ويُستثار الغضب، فتتحول الأمة إلى ساحة معركة بين نزوات المحرّضين وخوف النَّاس على حاضرهم ومستقبلهم.

التحريض الفردي

كم من قلوب امتلأت كراهية بسبب كلماتٍ قليلة، وكم من مجتمعات هشّت لفتنةٍ كانت تُزرع في الخفاء؟ التحريض الفردي يخلق صدورًا ضيقة وقلوبًا متنافرة، ويترك أثره في العلاقات الإنسانية قبل أن يصل إلى المستوى الاجتماعي والسياسي. من يحرّض على غيره لا يعي أن النار التي يشعلها قد تعود لتلتهمه هو أولًا.

التحريض على مستوى الدول

الأخطر هو حين يتحوّل التحريض إلى سلاح سياسي يُوجَّه نحو الدول. كثير من الدول العربية التي سقطت في فوضى مدمّرة، مثل ليبيا، وسوريا، والعراق، واليمن، لم يكن سقوطها مجرد نتيجة أحداث داخلية، بل كان نتيجة تراكم حملات تحريض مستمرة: أصوات مأجورة، وجهات إعلامية مسيطرة على الفضاء، وجيوش إلكترونية تُهيّأ خصيصًا لزرع الفوضى ونشر الشائعات. هذه الحملات تُحوّل العواطف إلى نار مشتعلة، والعقول إلى رهائن، فتنهار المؤسسات وتتفتت المجتمعات، ويُترك المواطن البسيط ليواجه مصيره وسط خراب البنية واستنزاف الأمن والاستقرار، بينما يجني المحرّض مكاسبه من بعيد، مستمتعًا بمشهد الدمار.

استغلال الدين والمذاهب للتحريض

في أحيان كثيرة، يتحوّل الدين- الذي خُلق ليكون منارة للرحمة والتسامح- إلى سيف يُسلَّط على رقاب المختلفين. هناك من استغل المنابر الدينية لنشر التحريض، مستخدمًا الكلمات المشوَّهة والفتاوى المضللة، فحوَّل اختلاف الاجتهادات والمذاهب إلى كراهية وشقاق بين القلوب التي خُلقَت لتتآلف. ما أشد المأساة حين يُستغل الدين لمصالح دنيوية: السلطة، الشهرة، وتمرير أجندات بعيدة عن مصالح الأمة وحفظ الدين. الحقيقة أن الدين هو للرحمة والحب، ولتقريب القلوب مهما اختلفت المذاهب، فكل قلب صادق ينبض للإنسانية قبل أي هوية مذهبية.

مكاسب المحرّضين وأهدافهم الخفية

أما المحرّضون، فمكاسبهم سطحية ومؤقتة: مال، شهرة، نفوذ، أو تنفيذ أجندات خارجية. يظلون بعيدين عن الخطر، يتفرجون على الخراب الذي ألحقوه بالوطن والشعب، بينما يدفع المواطن البسيط الثمن الأكبر من دمائه وأمنه ومستقبله. وهنا تكمن المأساة الكبرى: من يحرّض على السقوط لا يملك القدرة على البناء بعده، ولا يدرك أن الأمم الحية لا تُهزم بالكلمات وحدها، بل بالإرادة والوحدة والعمل الصادق.

لنتذكّر جميعًا أن من أراد الإصلاح فليكن بنّاءً، ومن أراد الخير لأمته فليحمل فكرًا يُعمِّر لا لسانًا يُدمِّر؛ فالتحريض نارٌ لا تفرِّق بين الأبرياء والمستهدفين، ولا تترك سوى رماد القلوب والمجتمعات. الكلمة قادرة على البناء كما هي قادرة على الهدم، ولنعمل على أن تكون دومًا للبناء، لا للتدمير.

الأكثر قراءة