مسعود أحمد بيت سعيد
يشهدُ العالم اليوم لحظةً مفصليةً في تاريخه المعاصر، تتَّسِم بتحولاتٍ عميقة قد تُعيد رسم ملامح النظام الدولي برُمته؛ فالمشهد العالمي بات يُنذر بنهاية محتملة لحقبة التفرد الأمريكي، وتشكل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وهو ما يحمل في طياته تغييرات جوهرية تتجاوز البعد السياسي، لتطال الأسس الاقتصادية والاجتماعية التي قامت عليها المنظومة الرأسمالية.
هذه التحولات لا يُمكن فهمها بوصفها أحداثًا عابرة؛ بل تُشكِّل ما يشبه حالة كمون تسبق انفجارات تاريخية كبرى، لن تكون أي قوة أو نظام بمنأى عن تداعياتها. العالم، الذي أَلِفَ ازدواجية المعايير وانقلاب البديهيات، لم يعد قادرًا على تحمُّل مزيد من العبث بالمفاهيم والمبادئ، لا سيما في ظل صعود قوى جديدة وتراجع نسبي في قدرة القوى الاستعمارية على فرض إرادتها. وقد قدمت الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة مشهدًا يستحق التوقف عنده؛ إذ حملت في طياتها مؤشرات واضحة على تغيُّر في مزاج النظام الدولي واتجاهاته، وإن لم تتبلور ملامح هذا التغير بشكل كامل بعد، إلّا أن العديد من التطورات تُشير إلى أنَّ تحولات كبرى أصبحت قيد التحقق.
ومن أبرز هذه التطورات، انسحاب وفود 77 دولة من قاعة الأمم المتحدة أثناء خطاب نتنياهو- منها 18 دولة عربية، بحسب صحيفة يديعوت أحرنوت الصهيونية، إضافة إلى موجة الاعترافات المتزايدة بالدولة الفلسطينية من قبل دولٍ لطالما عُرفت بعدائها للحقوق الوطنية الفلسطينية؛ الأمر الذي يطرح تساؤلات حول دوافع هذا التغيير، ويكشف عن تبدل في المعادلات التي حكمت السياسة الدولية لعقود طويلة. وهذه الانسحابات والاعترافات لا تُفهَم في سياق صحوة ضمير مفاجئة؛ بل كمؤشر على تغيُّر موازين القوى وتحولات الواقع السياسي العالمي. فقد وجدت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني نفسيهما شبه معزولين أمام موجة تضامن دولي متزايد مع الشعب الفلسطيني، ما يعكس انكشاف المشروع الصهيوني الاستيطاني الإجلائي العنصري وفشل السياسات الأمريكية في تسويقه دوليًا.
في هذا السياق، يمكن الوقوف عند دلالتين محوريتين تفرزهما اللحظة الراهنة؛
أولًا: بروز نمط جديد من العلاقات الدولية، يقوم على استقلالية القرار السياسي واستشراف المستقبل، كما تعكسه مواقف تلك الدول التي قررت الاعتراف بدولة فلسطين، رغم علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن وتل أبيب؛ إذ بدأت هذه الدول تدرك أن المصلحة الوطنية لم تعد بالضرورة مرتبطة بالتبعية التقليدية للنفوذ الأمريكي؛ بل بتلمس موقعها في خارطة العالم الجديد قيد التشكل.
ثانيًا: استمرار حالة التبعية السياسية والاقتصادية التي تطبع سلوك معظم الدول العربية والإسلامية، والتي لا تزال، رغم كل المتغيرات، تلتزم بإملاءات السياسة الأمريكية. ففي الوقت الذي يسعى فيه العالم إلى التحرر من الهيمنة الإمبريالية الكولونيالية، تواصل هذه الدول الارتماء في حضن واشنطن، كما لو أنَّ شيئًا لم يتغير. وهو ما يكشف، بوضوح، عن الطبيعة الوظيفية لهذه الأنظمة التي يبدو أن بقاءها مرهون بإرضاء المراكز الإمبريالية. وفي هذا الإطار، تدرك واشنطن أن التغيرات الجارية قد تهدد قواعد هيمنتها التاريخية، ولذلك تسعى إلى تحقيق هدفين رئيسيين: أولًا: تثبيت الكيان الصهيوني وضمان ديمومته، وقد يتطلب الأمر القبول بقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح والسيادة على حدود 1967. ثانيًا: ضمان اصطفاف الدول الإسلامية إلى جانبها في صراعها المحتدم مع القوى الدولية الصاعدة، كالصين وروسيا وبقية التحالفات الاقتصادية والسياسية الجديدة.
لكن، في تقديري، لن تُغيِّر مثل هذه المخططات كثيرًا من مسار التحولات القادمة؛ فإعادة تشكل موازين القوى الدولية المرتقبة لن تكون في صالح القوى الإمبريالية وحلفائها؛ بل ستفتح الباب أمام قوى التحرر، وتُعطي دفعة لحركات التغيير الاجتماعي والسياسي في العالم. ما يعنيه ذلك عمليًا، هو أن استمرار الهيمنة الأمريكية لم تعد ممكنة؛ حيث إن ما يحمله المستقبل مرشح لإنتاج صيغ سياسية جديدة، تقوم على حق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار نظمها السياسية والاقتصادية، عبر الشراكة الوطنية، والمواطنة الحقيقية، والعدالة الاجتماعية. وستكون هذه الصيغ، بالضرورة، محكومة بدساتير وطنية حديثة تُنهي حقبة التحالفات المشبوهة، وتقطع أنماط التبعية التي أعاقت النهوض الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
لقد ولَّى الزمن الذي كانت تُرسَم فيه استراتيجيات الدول بمعزلٍ عن مصالح شعوبها؛ فالعالم بالفعل يتغيَّر، والسؤال إلى أين؟ لم يعد ترفًا فكريًا؛ بل بات واقعًا موضوعيًا يفرض على الجميع- أفرادًا واحزابًا ودولًا- إعادة النظر في مواقعهم، وأدوارهم، وتحالفاتهم، قبل أن تَفرض عليهم الأحداث خيارات لا يمكن التراجع عنها.