رحل عبدالناصر وبقيت الناصرية

 

 

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

في يوم 28 سبتمبر عام 1970 رحل الزعيم الخالد جمال عبدالناصر عن عالمنا بعد ثمانية عشر عامًا من التَّحدي والبناء والكبرياء.

رحل عبدالناصر فيُتِّمت الأمة العربية، وأصبحت من بعده أقطارًا مُشتتة هشة فريسة لكل متردية ونطيحة وما أكل السبع. رحل جمال عبدالناصر فتُيِّمَت آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بحركة عدم الانحياز وبحركات التَّحرر في العالم.

رحل الزعيم جمال عبدالناصر؛ فتنفس أعداء الأمة الصُعداء وعادوا إلى غيهم وخططهم وعبثهم لتمزيق الأمة إلى أقطار وظيفية تقضم أطرافها بكل فخر، وتقدم ثوابتها ومصيرها قرابين لإرضاء العدو. رحل الزعيم فتغوَّل الأقزام وسال لعابهم لقيادة الأمة وتقرير مصيرها. بكته الجزائر؛ لأنه ساهم في تحريرها من الاستعمار الفرنسي البغيض، فلم يُقدِّسه الجزائريون رسميًا؛ بل شاعت أسماء جمال وعبدالناصر وناصر ونصيرة، تقديسًا لذكراه وتعبيرًا عن محبته في الضمير والوجدان الجزائري. بكته سوريا؛ لأنه أنقذ وحدتها ووجودها بوحدة عام 1958 والتي أنقذتها من مخطط الاحتلال التركي العراقي (الملكي). وبكاه العراق الذي ألهمه "ثورة 14 تموز" التي أطاحت بالملكية وأنتجت حكومة وطنية عروبية. بكته الكويت التي حافظ على استقلالها وسيادتها من أطماع وتهديدات عبدالكريم قاسم. بكته اليمن شمالها وجنوبها؛ حيث مكَّن الجمهورية في الشمال، وحقق الاستقلال للجنوب من الاحتلال الإنجليزي. بكته الثورة الفلسطينية والتي أنشأ منظمتها في القاهرة برئاسة المناضل الكبير أحمد الشقيري ودعمها ماليًا وسياسيًا وإعلاميًا. بكته الثورة الإيرانية والتي كان يدعم نواتها عبر مكتبها بالقاهرة وممثلها الدكتور إبراهيم يزدي. بكته الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج؛ حيث كان لا يخلو منزل مواطن عربي من صورة الزعيم، وشاعت أسماء جمال وعبدالناصر وخالد حتى يدعون أبوخالد، وصلاح وممدوح وعبدالحكيم والسادات وأنور تيمُّنًا برموز الضباط الأحرار. بكته النُخب العربية من مفكرين ومثقفين وفنانين وأدباء وشعراء؛ لأنه كان رمزهم وملهمهم وداعمهم الأول. بكته حركة عدم الانحياز ورموزها التاريخيون نهرو وتيتو وكاسترو ونكروما وسوكارنو؛ لأنه أسَّس حركة سياسية وسطية بين قوى كبرى تتصارع على اقتسام العالم وثرواته في الشرق والغرب.

لم يكن جمال عبدالناصر ظاهرةً تاريخيةً بداخل مصر رغم مُنجزاته العملاقة الضخمة بداخلها، من تأميم قناة السويس وتحقيق الجلاء الإنجليزي عن مصر وبناء السد العالي وأكثر من 1200 مصنع، وخدمة الإسلام عبر الأزهر الشريف جامعةً وجامعًا، وكلية الدعوة وإذاعة القرآن الكريم والإذاعات الموجَّهة بكافة اللغات، وتحقيق التآخي بين الجامع والكنيسة؛ بل كان ظاهرة عربية للتحرر والتحدي والكبرياء.

استلم عبدالناصر حكم مصر وموازنتها لا تزيد عن 200 مليون جنيه يتقاسمها الإقطاع، بينما يقيم الحكم الملكي حملات "الحُفاة" تحت شعار "شبشب لكل مواطن"، لانتشار ظاهرة الحُفاة في مصر في العهد الملكي. ووصل الزعيم بموازنة مصر إلى تريليون و200 مليون جنيه في زمن قياسي. خاض الزعيم ستة حروب في عهده- وكما يروق لخصومه اختزاله- وخرج من الدنيا ومصر مديونة بمليار و800 مليون دولار أغلبها ديون عسكرية، بينما لم يخض خليفته حربًا واحدة (حرب أكتوبر 1973 كان مخططاً لها منذ عهد الزعيم جمال عبدالناصر)، وخرج السادات بديون عسكرية ومدنية على مصر قدرها 38 مليار دولار.

عبدالناصر لم يكن رئيسًا لمصر فحسب؛ بل جعل من مصر والوطن العربي محور العالم وقبلة الأحرار وهدفًا استراتيجيًا للخصوم، فحين شهد العالم شعبية عبدالناصر في نيويورك عام 1966، عندما حضر لإلقاء كلمة مصر في الأمم المتحدة، وشهدوا حجم الاحتفاء الشعبي العفوي بموكبه في الشارع، وحجم المنسحبين من كلمة العدو (37 رئيسًا) تضامنًا مع انسحاب الزعيم، تيقَّنوا بأن عبدالناصر لم يعد يحكم مصر؛ بل هيمن على العالم، وهمَّش "الكبار"، وهنا جاء التوافق الدولي على ضرورة الخلاص من عبدالناصر وتجفيف الناصرية من بعده، وبدأ المخطط بحرب 1967م والتي يُصوِّرُها القاصرون على أنها مواجهة مصرية صهيونية، بينما حقيقتها مواجهة بين العالم الغربي بتوافق دولي وعبدالناصر.

قبل اللقاء.. الناصرية ليست نسبة إلى عبدالناصر؛ بل إنها منسوب عالٍ من الوطنية، فحين يتشبَّه المرء بوطنه يُسمَّى ناصريًا، وهكذا كان الزعيم جمال عبدالناصر.

وبالشكر تدوم النعم.

الأكثر قراءة