بينوكيو يقود الفيسبا حول مسرح العرائس!

 

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

 

 

لا يعرف عالَم الخيال أعرافًا ولا تحدهُ حدود ولا يعترف بالمُستحيل، وقد ترتبط خيوط أفكار الكاتب بأطرافه وتقيده بالأحداث وتبدأ بتحريكه كما تفعل معي الآن لتُقلني أجنحة وحي خيالي مع القلم على متن الصفحات البيضاء بعيدًا؛ ما بين مدينتي "كتانيا وباليرمو" حيثما يقرر الفنان "بيترو أديلو" إقامة حفلٍ لمسرح العرائس أو الدمى المُسماة "ماريونيت"؛ كونها وسيلة الترفيه الأكثر رواجًا في جزيرة صقلِّية، لأداء بعض العروض للمعارك الملحمِّية التي تُظهر تفوق فُرسان جنوب إيطاليا على خصومهم النورمان أحفاد الفايكنج، وبما أن أهل صقلِّية شديدو النزعة القومية والروح الوطنية ويستحسنون العروض التي تُذكرهم بعظمةِ وعراقةِ ماضيهم والتي تنتهي تحديدًا بانتصارهم كمعركة "سيرامي" مع أنَّ فضل النصر يعود للمسلمين الأغالبة، إلا أن الجموع بدأت باستشعار دبيب الملل في تلك العروض المُتشابهة والمُتكررة كل عام، ولا تخلو غالبًا من المكر والدسائس ويختلط فيها الفخر بالعنف مع القتل والدم وبعض المُبالغات والزيف أحيانًا من الأصابع الخفية المُتحكمة بالشخصيات وخيوطها غير المرئية.

يتوق الصقلِّيون إلى تجديدٍ يخرجهم من رتابة سوداويات الحروب وعواقبها بسبب ذكرياتٍ قاسية لدى مُعظم من يحضر مثل تلك العروض، وبالطبع لا يرغب الجميع في استحضار تأمُلاتٍ أليمة في مُناسبات الفرح بقدر ما يرغبون في التسليةِ والترفيه، وهذا ما حدث بالفعل مع بيترو أديلو؛ إذ لم تُحقق عروضه رواجًا كبيرًا وكان الإقبال عليها هزيلًا، كما أن الازدراء والتهكُّم بدا واضحًا على وجوه القلة القليلة من الحاضرين لا سيما أن الفكرة القصصية بدأت تتخذ نمطًا جديدًا مع ظهور شخصية "بينوكيو" للروائي الإيطالي "كارلو كلودي" والتي لاقت قبولًا فاق التوقعات على صفحات مجلة الأطفال "جورنالي دي بامبي" فبعض الشخصيات الخيالية لابد أن تعيش إلى الأبد ويجب أن تتمرد على جمود تماثيل "مايكل أنجلو" ولوحات "ليوناردو دافنشي" وذلك ما كان الكاتب الروائي يحدث به نفسه عندما لمعت فكرة الدمية الخشبية بتألقٍ على ضفاف نهر "آرنو".

الطفل بينوكيو هو عبارة عن دمية مصنوعة من الخشب وتتمحور مُعظم قِصصه حول الأخلاق والمروءة والشجاعة في قالبٍ طفولي مشوق وانعكاسٍ واضح لهموم المؤلف والمجتمع وضرورات المرحلة، وتُضفي شخصية بينوكيو نوعًا من مشاعر التعاطف معها وهو في رحلة البحث عن الإنسانية ويحلم باليوم الذي يتحول فيه جسده الخشبي النحيل إلى آدمي، ومُفارقة التشويق هنا أن أنفهُ يطول حين يكذب ويزداد الأنف طولًا مع كل كذبة، مما يجعله مكشوفًا للعالم وقد كان ذلك العيب فيه أو ربما الميزة هي حافزهُ الأول على الصِدق وتجنُّب الكذب.

 

يقبع في أقصى مدينة "سيراكوزا" كوخٌ صغير تشوبه الريبة ويعرفه الأهالي هناك باسم "بيت الكذب"؛ حيث تُصنع فيه الدمى الصغيرة بتصاميمٍ جميلة وألوانٍ براقة جاذبةٍ لكن لا تخلو أشكالها من مسحةِ الغموض، ويبدو أن صانعوها يتعمدون نكهة الارتياب كطابع مُميز لدُماهم أو قد يكون ذلك نهجهم، وعلى كل حال فإنها تلقى رواجًا جيدًا عند محبي هذا النوع من المُقتنيات خصوصًا الزُوار من خارج المدينة، وعند الذين امتهنوا فن مسرح الدمى -العرائس- وكانت "جورجيا" المُقتبس اسمها من فلاحة الأرض أو اسم القديس جورج هي الدمية الأكثر شعبية وقد لاقت شُهرةً واسعة، واحبها الايطاليون لجمالها وقوة شخصيتها وصلابة مواقفها في العروض المسرحية قبل أن تتربع على عرش الدُمى وتستأثر بالنصيب الأكبر من الحضور الجماهيري.

لقد ألقى عدم الاستقرار في أوروبا بظلالهِ القاتمة على تلك الأحداث ليُنحيها أكثر من 60 عامًا، حتى إذا انتهت الحقبة الفاشية الايطالية وتدلت جثَّة موسيليني كدمية آدمية في ساحة "لوريتو"، نَشطت بعدها بعامٍ الصناعات المدنية والموضة والفنون، وبما أن الخيال لا يموت ونسيج الأفكار لا يُبلى، فإن الشخصيات الخيالية تبقى من أبكار بَناته الخالدة وتحمل ميراثه ولها نصيب كبير من التكيُّف والتطور، عندها وجدت جورجيا لنفسها طريقًا مُلائمًا لتقديم عروضها على مسرح دار "أوبرا دي بوبي" وتغادر بيت الكذب الذي ضاقت مِساحته على تحقيق طموحها، وفي قلب مدينة "فلورنسا" وعلى احد ارصفة شارع "كالزيولي" يحلم بينوكيو بقيادة دراجة "فيسبا" الايطالية الشهيرة ولكنه يستدرك بأنه دمية خشبية، ولن يتحقق له ذلك إلا بالتوقف التام عن الكذب حتى يمكنه التحول إلى إنسان وهو يُحاول جاهدًا ملامسة سقف أحلامه، ومُستفيقًا جدًا حين تناهى إلى علمه أن جورجيا حققت نجاحها بسبب الأكاذيب التي تسردها على المسارح غير مباليةٍ بتنبيهات المجتمع من حولها، أو هكذا يدفع بها صانعوها ومحركوها من خلف السِتار لبلوغ المجد، كما أن أنفها لا يطول عندما تكذب.

لاقت جورجيا- في آخر ظهورٍ لها على أحد المسارح العالمية عندما كانت تقدم عرضها المسرحي بعنوان "الاعتراف المستحيل"- امتعاضًا واضحًا وسخطًا شديدًا، ليس من الحضور وحسب؛ بل حتى من جمهورها الإيطالي الذي أوصلها إلى ذلك المقام؛ إذ باتت أكاذيبها مكشوفةً للجميع وهي تحاول إسباغ صفة الصدق على وجهها والنزاهة على بيت صانعها الذي نشأت فيه وتعضد نفسها بالدمى الخمس الكبيرة من نوع الماريونيت، وبما أنها تعلم أن أنفها لا يطول فقد أهمل عقلها العرائسيّ أنه يطول في نظر الآخرين دون أن تشعر وأصبح الكل يصفها بذلك، وباتت تلك سِمةٌ سائدة تغلغلت في الثقافة الإيطالية لوصف الكاذب.

في هذه الأثناء يصول الطفل بينوكيو فوق دراجة الفيسبا ويمكنه الشعور بنبضات قلبة وتباطؤ دقاته وتسارعها مع ما يحدث حوله، ويجول في نواحي إيطاليا من جنوبها إلى شمالها بعد أن تجسَّد من صفحات مجلة جورنالي دي بامبي الجامدة، مُحققًا متابعاتٍ شعبيةٍ ساحقة وهو يحدث بالكوخ الصغير المُريب في سيراكوزا، حين أعتقد أنه كل شيء، وإن الإنسان من حوله لا يُعتبر شيئًا إلّا إذا تحول إلى دميةٍ متعددة الأشكال والأغراض لتخدم أهداف صانعيها، وقد تنتحل تلك الدمية الروح الفاشية البائدة وإن لم تُصرح بذلك علنًا كما فعلت جورجيا التي أظهرت على غموض جمالها سمات البهرجة وتقمصت شخصيتها المُريبة هيئة الإنسانية خِدمةً لولائها الخفي لبيت الكذب في موقفٍ خشبي مُخادع يفهم عمقه ومغزاه الجميع.

بينوكيو البالغ من العمر 144 عامًا لم يعد يخاف على نفسه من استطالة أنفه لأنه تحرر من قيوده، وببساطة لم يعد بحاجة للكذب، واختفى النورمان والأغالبة من المشهد وتبعهم بيترو أديلو وكارلو كلودي وقريبًا تلحق بهم جورجيا، بينما لا يزال بينوكيو طفلًا حُرًا وهو يلعب الآن في ضواحي روما.

الأكثر قراءة