خالد بن سالم الغساني
ما أعلنه رئيس الوزراء البريطاني زعيم حزب العمال البريطاني كير ستارمر من تطمينات لإسرائيل بأنَّ الاعتراف بدولة فلسطينية لن يكون إلا شكليًا، ليس موقفًا فرديًا أو هفوة سياسية؛ بل امتداد مباشر لسياسة استعمارية قديمة ومتجددة، بدأت مع وعد بلفور عام 1917 عندما منحت بريطانيا أرض فلسطين للصهاينة على حساب شعبها وأصحابها الأصليين.
ذلك الوعد كان فعلًا استعماريًا متعمدًا، هدفه إنشاء قاعدة متقدمة للنفوذ الغربي في قلب العالم العربي، واليوم بعد أكثر من قرن، يتكرر المشهد ذاته بلغة جديدة؛ حيث تحاول بريطانيا ومعها الغرب الإمبريالي أن يقدّموا للفلسطينيين دولة منزوعة السلاح، كشرط أساسي للاعتراف بها، ولا تتجاوز كونها شكلًا بلا مضمون، مجرد إطار رمزي يُستغل لتبرير الهيمنة الإسرائيلية وتجميلها، ويدعو ماكرون الدول العربية كافة للاعتراف وفقًا لذلك بما يسمى بدولة إسرائيل والتطبيع معها.
الاعتراف الشكلي الذي يجري الحديث عنه ليس إلّا فخًا سياسيًا، ذلك أنه يعطي الانطباع بوجود حل دبلوماسي عادل، ويُبقي إسرائيل ممسكة بكل أدوات القوة والسيطرة مع ضمان الاعتراف بها والاعتراف لها بكل ذلك.
الدولة الموعودة في هذا السياق ليست أكثر من جيب مقطع الأوصال، منزوع السلاح، مرتهن اقتصاديًا وأمنيًا لإسرائيل، بينما تُسوق للعالم على أنها تجسيد لحل الدولتين.
إنَّ هذا التضليل الاستعماري المكشوف، يخدم بريطانيا والغرب في امتصاص الغضب الدولي المتصاعد ضد جرائم الاحتلال، وفي الوقت نفسه يفتح الطريق أمام العرب والمسلمين للانخراط في مسار التطبيع مع إسرائيل بحجة أن القضية حُلت.
لكن الدور لا يقف عند حدود بريطانيا وحدها؛ بل يمتد إلى الولايات المتحدة التي تمثل مركز الثقل الإمبريالي في عصرنا الراهن، فواشنطن هي الراعي الأول لإسرائيل، والداعم العسكري والسياسي الأكبر لها، وهي التي تضمن تفوقها النوعي على كل دول المنطقة، والاعتراف الشكلي بالدولة الفلسطينية يتناغم تمامًا مع الاستراتيجية الأمريكية الأوسع التي تتلخص في احتواء الغضب الشعبي، وتفكيك أي إمكانية لقيام مشروع عربي تحرري، مع ضمان استمرار إسرائيل كأداة وظيفية متقدمة لحماية مصالح النفط، والممرات البحرية، وأسواق السلاح، والتحكم في مسارات الطاقة.
إنَّ ما تفعله بريطانيا اليوم عبر تصريحات ستارمر ليس إلّا انسجامًا مع هذه الاستراتيجية الأمريكية- الغربية، التي ترى في إسرائيل ضرورة وجودية لبقاء نفوذها وهيمنتها على الشرق الأوسط.
وإذا عدنا إلى التجارب التاريخية نجد أن الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، لم تكن يومًا طرفًا محايدًا في الصراع؛ بل كانت دائمًا جزءًا من المؤامرة. فهذه القوى هي التي وفرت الغطاء لعمليات التطهير العرقي عام 1948، وهي التي شرعنت عبر الأمم المتحدة تقسيم فلسطين بما يخدم المشروع الصهيوني، وهي التي ساهمت في حماية إسرائيل من أي مساءلة عن جرائمها المتكررة، من مجازر القرى الفلسطينية إلى الحروب العدوانية على غزة ولبنان. كل ذلك لأن إسرائيل بالنسبة لهم ليست مجرد دولة، بل قاعدة عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية متقدمة، تُدار بها ومن خلالها مصالح الإمبراطورية الغربية في قلب المنطقة.
إنَّ خطورة تصريحات ستارمر تكمن في أنها تكشف استمرارية العقلية الاستعمارية ذاتها التي رافقت وعد بلفور: عقلية ترى في فلسطين مجرد ورقة تفاوضية أو أداة لتثبيت النفوذ، لا قضية إنسانية عادلة لشعب يطالب بحريته. وبهذا المعنى فإن الاعتراف الشكلي لا يختلف عن الوعد الاستعماري الأول، سوى أنه يُقدَّم الآن في ثوب أكثر دبلوماسية، لكنه لا يقل خبثًا وخطورة، إنه وعد بلفور جديد، مكتوب بلغة السلام، لكنه محمّل بذات المضمون الاستعماري: تصفية الحقوق الفلسطينية، وتثبيت إسرائيل كأداة وظيفية، وضمان استمرار تبعية المنطقة للنظام الإمبريالي الغربي.
وعليه فإن التآمر البريطاني- الأمريكي- الغربي على فلسطين لم يتوقف يومًا، بل يتخذ أشكالًا متجددة تتكيف مع الظروف. وما يُعرض على الفلسطينيين اليوم ليس حلًا؛ بل خدعة كبرى، تستهدف قتل مشروع التحرر الوطني، وإبقاء الشعب الفلسطيني أسيرًا تحت الاحتلال، بينما تفتح الأبواب مشرعة أمام دمج إسرائيل في المنطقة كقوة مهيمنة لا تُمس. وهنا تبرز المسؤولية التاريخية للشعوب العربية والإسلامية، التي لا يجوز أن تنخدع بمسرحيات الاعترافات الشكلية ولا بخطابات السلام الكاذبة.
إنَّ فلسطين كانت وستظل قضية تحرر وكرامة وهوية، وأي تنازل عنها هو تفريط بمقومات الأمة كلها، لذلك فإن الرد الحقيقي على مؤامرات الغرب الاستعماري لا يكون إلّا بالتمسك بخيار المقاومة، ورفض التطبيع، وإحياء الوعي الجمعي بأن فلسطين ليست عبئًا؛ بل جوهر الصراع ضد الهيمنة، ورمز النضال العادل ضد الاستعمار بأشكاله القديمة والجديدة.