الطليعة الشحرية
يُمثِّل الماء أساسًا للأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وفي مُحافظة ظفار، تتصدر منطقة النجد المشهد بوصفها سلة غذائية واعدة، لكنها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الخزان الأحفوري، وهو مورد مائي غير متجدد بالقدر الكافي. هذا الاعتماد يفرض تحديات خطيرة على مستقبل الاستدامة، ويجعل من البحث عن حلول استراتيجية مثل صيد الأمطار الموسمية خيارًا حتميًا لتعزيز الأمان المائي وضمان الأمن الغذائي.
الخزان الأحفوري في النجد تكوّن عبر آلاف السنين، ويُعد مصدرًا أساسيًا للزراعة والثروة الحيوانية. إلا أن الدراسات الحديثة، ومنها أبحاث منشورة عبر GRACE ResearchGate (2017)، تشير إلى فقدان ما بين 0.44 و0.46 كيلومتر مكعب سنويًا من المياه الجوفية بسبب الضخ المفرط. ومع محدودية التغذية الطبيعية، فإنَّ استمرارية هذا النمط تعني تهديدًا مباشرًا للمورد وللإنتاج الزراعي المرتبط به.
النجد تُعرف بأنها "سلة ظفار الغذائية"؛ حيث تنتج التمور والأعلاف والخضروات، وتدعم الثروة الحيوانية، غير أن هذه السلة قائمة على مورد مائي غير دائم. توسع الزراعة يعني مزيدًا من الضغط على الخزان، بينما نضوبه يعني تقليص الإنتاج وتراجع الأمن الغذائي الوطني. وعليه، يصبح واضحًا أن الأمن الغذائي رهين بتحقيق الأمن المائي.
الأمان المائي هو ضمان توافر المياه بكميات وجودة كافية للأجيال الحالية والمستقبلية، في النجد، يواجه هذا الأمان تحديات متراكبة: الاعتماد على مورد غير متجدد. انخفاض مناسيب المياه وتزايد الملوحة. التوسع الزراعي غير المنضبط، خاصة في مناطق مثل نيابة الشصر، وفق تقارير وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، تأثير التغير المناخي، حيث تجلب الأعاصير أمطارًا غزيرة لكنها تُهدر سريعًا.
تستدعي الحاجة إلى خلق حلول استراتيجية مستدامة تعتمد على التكيف مع الطبيعة وتقليل المخاطر، وقد تكون إحدى هذه الاستراتيجيات هي صيد الأمطار الموسمية.
هنا يبرز الحل الأكثر واقعية واستدامة، كتحويل مواسم الأمطار والأعاصير من تهديد إلى فرصة. الأمطار الموسمية والسيول تجلب مئات الملايين من الأمتار المكعبة سنويًا، لكنها تتبدد في البحر أو الصحراء، عبر إنشاء شبكة متكاملة لحصاد الأمطار، يمكن إعادة شحن الخزانات الجوفية وتعزيز رصيد المياه السطحية. باستخدام آليات التنفيذ سدود صغيرة (Check Dams) على الأودية لالتقاط السيول وتخزينها. عمل أحواض تسريب (Recharge Basins) تسمح بتسرب المياه إلى الخزان الجوفي، وعمل آبار حقن لإدخال مياه السيول مباشرة في الأعماق بعد ترسيب الشوائب، برك زراعية (Farm Ponds) بالقرب من المزارع لاستخدام المياه مباشرة في الري.
يُمثل صيد الأمطار الموسمية مشروعًا استراتيجيًا مستدامًا يتجاوز كونه حلًا تقنيًا مؤقتًا، ليصبح ركيزة من ركائز الأمن المائي والغذائي في عُمان. فالمياه التي تهطل بغزارة خلال مواسم الأمطار والأعاصير تُهدر سريعًا، بينما يمكن- عبر منظومة مدروسة من السدود الصغيرة وأحواض التسريب وآبار الحقن- تحويل هذه الكميات إلى رصيد مائي يُغذي الخزان الجوفي ويخفف الضغط عن الموارد الأحفورية. إن الاستثمار في صيد الأمطار يعني بناء قدرة تكيفية مع التغير المناخي، وتقليل المخاطر على الزراعة والمجتمع، وتحقيق انسجام مباشر مع مستهدفات رؤية "عُمان 2040" التي تضع الاستدامة والأمن الغذائي في قلب أولوياتها. وبذلك، يصبح صيد الأمطار خيارًا وطنيًا استراتيجيًا يضمن استمرار النجد كسلة غذائية للبلاد ويحمي الأجيال القادمة من أزمة ندرة الماء.
ولا يكتمل مشروع الأمان المائي دون مواكبة الأمان الوراثي للنباتات باعتماد التكنولوجيا الحيوية (الحفظ الجيني) والذي يقوم بحفظ الجينات والمحاصيل النباتية جينيًا ويضمن بقاءها عبر بنوك جينية محلية تحمي الأصناف الزراعية التراثية. فحين ننجح في تخزين السيول وإعادة شحن الخزانات الجوفية، نصنع بيئة زراعية أكثر استقرارًا، وحين نحفظ الأصول الجينية للمحاصيل المحلية ونطور أصنافًا مقاومة للجفاف والملوحة، نضمن أنَّ المياه المحصودة ستوظَّف بأعلى كفاءة، هذا التكامل بين المورد المائي والمورد الجيني يجعل الزراعة أكثر مرونة أمام التغيرات المناخية، ولتعزيز هذه الاستراتيجية، تأتي التقنيات الحديثة كأداة أساسية لتحقيق الاستدامة المنشودة، فاصطياد الأمطار لا يعمل بمعزل عن واقع الثورة الرقمية الحديثة، بل يُكملها منظومة متكاملة من الابتكارات.
وأهمها توظيف الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة في إدارة الموارد المائية والزراعية بكفاءة أعلى، وهي خطوة محورية في أي مشروع إستراتيجي. فباستخدام إنترنت الأشياء (IoT) يمكن ربط السدود وأحواض التغذية الجوفية بحساسات ذكية لمراقبة منسوب المياه وتدفق السيول لحظة بلحظة، ما يتيح قرارات سريعة وفعالة في تشغيل البنية التحتية.
كما تسهم الهندسة الخضراء عبر زراعة الأشجار المحلية مثل الغاف والسمر حول الأحواض والسدود في خفض معدلات التبخر وتعزيز التنوع البيئي وباستخدام أنظمة الري الذكية المعتمدة على المستشعرات تقليل استهلاك المياه وتحسين إنتاجية المحاصيل، وإلى جانب ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورًا في التنبؤ بالأمطار والسيول وإدارة منظومة الحصاد بشكل متكامل، ليجعل من صيد الأمطار والزراعة الذكية مشروعًا مستدامًا قائمًا على الابتكار والتقنيات المتقدمة.
إنَّ مستقبل النجد كسلة غذائية لعُمان يتوقف على إعادة تعريف العلاقة بين الماء والزراعة. يجب أن يتحول الخزان الأحفوري إلى رصيد استراتيجي احتياطي، بينما تقوم المنظومة الزراعية على موارد متجددة وصيد أمطار موسمية منظم. هذه الرؤية تستند إلى العلم والبيانات الدقيقة عبر تحديث النماذج الرياضية للخزان، وتكامل السياسات بين الزراعة والمياه والطاقة، والابتكار التقني في حصاد المياه والزراعة الذكية، والمشاركة المجتمعية في إدارة وصيانة مشاريع صيد الأمطار.
الأمان الغذائي في عُمان يبدأ من الأمان المائي، والأمان المائي في النجد مرهون بقدرتنا على صون الخزان الأحفوري وتعويضه عبر حلول مُستدامة.
إن استراتيجية صيد الأمطار الموسمية ليست مجرد خيار تقني؛ بل مشروع استراتيجي وطني يجب أن يتصدر خُطط التنمية الزراعية والمائية، وإلى جانب ذلك، يشكل حفظ الجينات النباتية والمحاصيل المحلية خط الدفاع الثاني، إذ يضمن بقاء السلالات الزراعية الأصيلة وتطوير أصناف أكثر قدرة على مقاومة الجفاف والملوحة، ومع تكامل هذين المشروعين- الماء المحصود والجينات المصونة- يمكن أن تبقى النجد سلة غذائية فاعلة لعُمان، ويظل الماء والبذرة معًا ضمانة للحاضر والمستقبل على حد سواء.