عروس مُهداة للنيل (1)

 

 

 

مُزنة المسافر

 

ما كان منهم إلا أن ألقوها في النهر، لقد نامت هناك في النهر دون أن يدري أحد أنَّها نامت للإله، وصارت قربانًا له، ليتدفق النهر ويقترب الوقت من تحقيق الخلاص، وأي خلاص هذا، لقد أفلت وذهبت ورحلت كما ترحل العيون الغائرة عن الحياة، إنها ربما في حياة أخرى، لكنها غرقت، وهل فعلًا غرقت؟

تسأل نوسة وهي تدخل بخفة الماكرين حقل الفل عن "رمزي بيه"، الياسمين يعبق عبقًا يصل إلى السماء، وتجد نوسة متعة جلية في أن تخفي نفسها قليلًا لتُخيف رمزي بيه، لقد خرج بقبعة وملابس أنيقة واقترب من نوسة المشاكِسة، وشاكَسَها أكثر بلباقة معتادة منه.

رمزي: كيف تجدين الصباح؟

نوسة: كله فل يا رمزي بيه، زي الفل.

رمزي: متى ستأتين لتستمعي إليَّ وأنا أعزف البيانو.

نوسة: حين تعدني أن تأتيني بأفضل طبق كعك فراولة.

رمزي: جاتوه فريز، بالطبع سيكون هنالك طبق لكِ فقط.

نوسة: تعرف يا رمزي بيه، لقد رأيت حلمًا غريبًا، عن امرأة سقطت في النيل، لكنها كانت من زمان غابر.

رمزي: هل من زمن الأهرامات؟

نوسة: نعم لكنني رأيتها تقع في النهر، أخشى أن أراها من جديد، لقد تركتها تغرق.

رمزي: دعكِ من الخيال يا نوسة، قولي متى ستأتين لتستمعي إليَّ وأنا أعرف البيانو؟

لم يكن دلالها شيئًا يقدر أن يتجاوزه رمزي ابن الحادية عشرة، بينما كانت نوسة ابنة الثماني سنوات، مفعمة بالحيوية، نابضة بالوجد والحياة، معانقة للشجر والأيام.

ومن يدري إن كان دلالها هذا دلالًا تمارسه فقط على "رمزي بيه"، وقد يكون الأمر مختلفًا حين تجد نفسها أمام واقع مرير حين تعود هي للعريش الذي يجمع عائلتها، هي وأخيها أحمد وأختها الصغيرة مريم وعبد الرؤوف والدها، ووالدتها نعيمة.

رمزي: هل ستذهبين؟

نوسة: نعم عليَّ أن أروي الشجيرات، بعضها يحتاج للسقاية، وأنا أتحمل رواية البُرتآن (البرتقال)، ألا تعرف أن البرتآن ينمو في سراياكم؟

رمزي: خذيني في جولة هناك، لم أرَ أية برتقالة تنمو وسط ضجيج الأحصنة، لقد طلب والدي أن أهتم بالحصان الذي جلبه لي، قال لي أن مستقبلي يعتمد على فكرة تعلم كل شيء، كان رمزي بيه موهوبًا للغاية في عين نوسة، يرى الحياة رؤية البالغين، بينما نوسة تعيش طفولة مستمرة، تكسر الأمور والأشياء وتُعاقب وتُعاتب لأنها سرحة، ولا يمكنها أن تعيش الواقع.

وبختَّها والدتها ألف مرة، وتوقفت حين قالت لها نوسة بلغة فيها من الغضب الكثير:

سألقي بنفسي في النيل إن وبختيني مجددًا، وسأكون عروس النيل القادمة!

صرخت وصدحت والدتها نعيمة: من الذي أخبرها عن قربان النيل؟ ولماذا تردد نوسة هذه اللعنة التي لا يمكن أن تحدث الآن؟ ماذا لو غابت في فجر جديد ورحلت للنيل أو التُرعة أو مسبح الفرنجة أو نامت أسفل منارة تضيء بحر إسكندرية.

من أين أتت بكل هذا؟ إنها تكبر، وجهها أصبح مدورًا أكثر ربما، وشعرها بات ينسدل انسدالًا جميلًا، هنالك شاب وراء كل ذلك.

ربما يرغب أن يلقيها في أقرب بركة ماء تحكمها البط، وتراها الفراخ من بعيد، من هو هذا الشاب؟ لا يمكن أن يكون رمزي بيه، إنه ليس من مقامنا، إنه أعلى وأسمى أن يرى نوسة حبيبة وخليلة وصديقة؛ بل هو بيه صُغيّر ليغزل غزله حول نوسة.

راحت الأم ووبختها من جديد، وشدت أذنها حتى تتكلم.

اعترفت نوسة أنه كان حلمًا يتعلق بمصر القديمة، وأنها رأت الآخرة!

نعيمة: الآخرة!، ستأتي آخرتي على يديك يا عفريتة!

قومي من هنا، واجلبي الماء لنُسخِّنه قليلًا.

خرجت نوسة، وانتبهت للقمر الذي بات بدرًا جميلًا، ينظر إليها في مساء بارد، خرجت لتحضر الماء من دلو قريب أو من القُلة المُعلَّقة على عمود في مدخل العريش.

إنها المرأة التي غرقت، هل غرقت يا نوسة!؟

تلك المرأة التي ابتلعها النيل، إنها عروسه يا نوسة.

تلت نوسة التعاويذ، وقالت لها المرأة: أن عين حُورَس تحرس المكان، وأنه لا من داعٍ أن تخشى خاشية.

لا يمكن أن يحرس نوسة شيء من عذاب والدتها غير الناموس، حين تدعي أن الناموس والحوَّام قد لدغها ولا يمكنها النوم أبدًا، وهنا تجد ضالة في الهروب من شخير والدها.

المرأة: ماذا تريدين يا نوسة؟

نوسة: كعك الفراولة الذي يحبه رمزي بيه.

المرأة: هذا فقط؟

نوسة: نعم، وأن تذهبي قبل أن تراكِ والدتي.

المرأة: فلتكوني يا نوسة في العين محروسة،

وفي القلب مزدانة بالحكمة.

غابت المرأة غياب الغيوم عن البدر، وراحت ولم تدرِ نوسة أين راحت.

لكنها عرفت أن النيل أرسلها لينقذها ويحرك أيامها الراكدة، فهل هي للعلو رائدة؟!

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة