وادي دوكة: موطن اللبان وملتقى الحاضر بالمستقبل

 

 

أنور الخنجري

استكمالًا لرباعية مقالاتنا عن مواقع أرض اللبان في محافظة ظفار المدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، نختتم اليوم مشاهداتنا بالحديث عن موقع استثنائي، لا يقل أهمية عن المدن الأثرية التي لعبت دورًا محوريًا في تصدير اللبان العُماني إلى شتى أنحاء العالم القديم. إنه وادي دوكة، الموطن الطبيعي لشجرة اللبان ورمز أصالة أرض ظفار.

هنا على الطريق الواصل بين صلالة وثمريت، وعلى بُعد نحو 40 كيلومترًا من مدينة صلالة، يمتد وادي دوكة كواحة صامتة يفوح منها عبق التاريخ. هنا تقف أشجار اللبان منتصبة كشهود على حضارات استنشقت عبير هذه الأرض ثم تلاشت، فيما بقيت الشجرة وحدها تحفظ السرّ.

هذا الوادي، المُسجّل ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، ليس مجرد مشهد طبيعي، بل محمية تحتضن أكبر تجمع لأشجار اللبان في عُمان، وهي الشجرة التي خرج صمغها الثمين في قوافل عبرت الصحاري إلى معابد الفراعنة وأسواق الرومان، وظل رمزًا للتجارة والقداسة عبر آلاف السنين.

زيارة وادي دوكة اليوم تشبه الدخول إلى متحف مفتوح؛ كل شجرة تروي سيرة قافلة، وكل حجر يذكّر بطريق تجاري ربط ظفار بحضارات بابل وطيبة وقرطاج وروما واليونان. من هنا تعطرت نفرتيتي وعشتار وعلّيسة وزنوبيا ونساء القياصرة بعبير اللبان القادم من ظفار.

زيارة وادي دوكة ليست مجرد نزهة طبيعية؛ إنها رحلة إلى عمق التاريخ، حيث لا يحتاج الزائر إلا لخطوات بين الأشجار ليشعر أنه يستنشق من رئة الماضي؛ وبين تلك الجبال المحيطة والنسيم العابر تبدو التجربة مزيجًا من السكينة والرهبة، كأنك تسير في معبد مفتوح على السماء.

يمكن للزائر اليوم أن يسلك مسارات مشي خاصة داخل الوادي، برفقة مرشد يشرح طرق استخراج اللبان ويتيح فرصة لتجربة عملية "شق لحاء الشجرة" ومشاهدة قطرات الصمغ وهي تتجمد على الجذع، كما كان يفعل الأسلاف قبل آلاف السنين.

لكن وادي دوكة لا يمكن أن يقف عند حدود الماضي فقط، بل برؤية مستقبلية، يتسع المكان ليغدو مركزا متكاملاً للزوار، يوظف الوسائط الحديثة والواقع الافتراضي لعرض تاريخ شجرة اللبان ومحاكاة تجربة استخراج صمغها، وتجميعه وتنقيته وفرزه وتحميله على قوافل الجمال إلى الأسواق القديمة. ويمكن كذلك أن يستضيف فعاليات مثل "مهرجان اللبان أو البخور الظفاري"، حيث تمتزج العروض الشعبية بالموسيقى والشعر النبطي، حيث تختلط روائح العطور مع صوت الطبول، وحيث تعود صور القوافل المعبّقة بالعطر إلى الأذهان.

ولأن أشجار اللبان ليست مجرد جمال طبيعي؛ بل ثروة اقتصادية، فيمكن للوادي أن يكون منصة لانطلاق منتجات محلية مُستخلَصة من شجرة اللبان تحمل علامة "لبان وادي دوكة" أو "لبان ظفار"، وتشمل البخور والعطور والزيوت والمستحضرات الطبية والجمالية. كما يمكن إقامة ورش للحرفيين ومتاجر تقليدية، تتيح للسائح فرصة التعرف عن قرب على صناعة اللبان وتوفر لأهالي المنطقة مصدر دخل مستدام.

وللوادي أيضًا بُعد علمي مُهم؛ إذ يمكن أن يحتضن مركزًا بحثيًا لدراسة اللبان والنباتات الطبية المرتبطة به، يجذب الباحثين من مختلف دول العالم. كما أن تضاريسه الطبيعية وصمته العابق بالإلهام قد تجعل منه فضاءً مثاليًا للفنانين والكتّاب وصناع السينما.

وهكذا، يبقى وادي دوكة شاهدًا حيًا على ماضٍ عريق ووعد بمستقبل يجمع بين السياحة والاقتصاد والثقافة والبيئة. إنه المكان الذي يجعل من شجرة اللبان- رمز عُمان الأبدي- جسرًا يربط بين الحضارات والإنسان.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة