خالد بن سالم الغساني
بينما كان العالم، والعرب والمسلمون خصوصًا، يترقّبون نتائج القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة يوم الإثنين 15 سبتمبر، تضامنًا مع قطر بعد العدوان الإسرائيلي الذي استهدف الأسبوع الماضي مقارًّا سكنية لقادة من حركة المقاومة الفلسطينية على أراضيها، خرج وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو من القدس وإلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتأكيد الموقف الأمريكي تجاه الكيان الإسرائيلي، من خلال تصريح واضح وربما صادم للبعض.
قال روبيو بوضوح: «يجب أن ينتهي وجود حماس ككيان مسلّح يمكن أن يهدد السلام والأمن في المنطقة»، في إشارة واضحة إلى دعم واشنطن غير المشروط لإسرائيل، حتى ولو جاء ذلك على حساب سيادة دولة عربية حليفة.
هذا الموقف الأمريكي لا يمكن عدّه تصريحًا سياسيًا عابرًا؛ بل إنه مقصود حتى في توقيته، إنه تأكيد مكرر لموقف استراتيجي وثابت لا يمكن التهاون بشأنه أو المساومة على بدائل له، مفاده أن الولايات المتحدة ستقف إلى جانب إسرائيل مهما بلغت الانتهاكات، ومهما كانت نتائجها على استقرار المنطقة. إنّه إعلان مكرر يُربط مباشرة بين تصعيد العنف الإسرائيلي واستمرار الغطاء الأميركي له، ما يضع الدول العربية والإسلامية أمام واقع سياسي قاسٍ يتطلب إعادة نظر جدّية في آليات الرد والدفاع عن مصالحها السيادية.
القمة التي استضافتها الدوحة، وشارك فيها ممثلون عن أكثر من 50 دولة عربية وإسلامية، خرجت بمشروع بيان ختامي تضمّن نحو 20 بندًا. أهم ما جاء فيه: «إدانة الاعتداء الإسرائيلي الخطير على سيادة دولة قطر»، والتأكيد على أن «العدوان على قطر يُعدّ عدوانًا على جميع الدول العربية والإسلامية». كما دعا البيان المجتمع الدولي إلى «تحمّل مسؤولياته في حماية الشعب الفلسطيني ومقدساته»، وحذّر من أن استمرار مثل هذه الاعتداءات يشكّل تهديدًا مباشرًا للأمن والسلم الإقليمي والدولي.
ورغم هذه العبارات المعتادة التي يُعتقد بأنها قوية ما يكفي، بقيت المخرجات ضمن الإطار التقليدي للبيانات الرمزية، من دون خطوات عملية واضحة كفرض عقوبات، أو تحريك دعوى قانونية أمام المحاكم الدولية، أو حتى إطلاق مسار دبلوماسي منسّق للضغط على تل أبيب وواشنطن.
هُنا تبرُز الحاجة إلى إجراءات أكثر جرأة، من بينها التلويح على الأقل بوقف أو تعليق مسارات التطبيع القائمة مع إسرائيل ما لم تلتزم بالقانون الدولي، وكذلك إعلان تثبيت الاعتراف بحماس وبكل حركات المقاومة الفلسطينيةً واللبنانية كحركات مقاومة شرعية في وجه الاحتلال وعربدته، بدلًا من الرضوخ للتصنيفات الأميركية والأوروبية التي تجرّد الفلسطينيين من أدواتهم الأساسية للدفاع عن أنفسهم. مثل هذه الخطوات فيما لو اتخذت، فإنها لا تمثل فقط ردًا عمليًا؛ بل تعكس انسجام الموقف الرسمي مع وجدان الشارع العربي والإسلامي.
لا يمكن فصل هذه التطورات عن السياق التاريخي للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي؛ فحركة حماس، التي تُصنّفها واشنطن على قوائم الإرهاب منذ عام 1997، ما تزال يُنظر إليها في فلسطين وغالبية العالم العربي والإسلامي على أنها حركة مقاومة شرعية، نشأت من رحم عقود من الاحتلال والتهجير والاستيطان والقتل، وإن وصفها بالإرهاب في وقت تتعرّض فيه غزة والضفة لتهجير وقتل ممنهج، ليس سوى محاولة لقلب الحقائق: وإلصاق التهمة بالضحية وتبرئة الجلاد.
إنَّ العجز العربي الرسمي، الذي ظهر جليًا في القمة الطارئة، يكشف مأزقًا أعمق يتجلى في ضعف القدرة على صياغة ردّ عملي يحمي سيادة الدول الأعضاء، ويفرض آليات رادعة توقف العدوان، ويدعم الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال. وبينما تكتفي القمم العربية والإسلامية، الدورية منها أو الطارئة، ببيانات الرد بالتهديد بالمفردات الثلاثة المحفوظة (التنديد والشجب والاستنكار)، يمضي الاحتلال قدمًا في عملياته، مستفيدًا من غياب موقف عربي إسلامي فاعل لتكريس قوته السياسية والعسكرية.
ومع ذلك، يبقى ما يشفع للأمتين، ويقهر العدو، صوت المقاومة الفلسطينية الأكثر صدقًا وشرعية، لأنها تمثّل إرادة شعب يرفض الاستسلام، وقدّم آلاف الشهداء ولا يزال مستعدًا للتضحية دفاعًا عن أرضه وكرامته. وكلما ارتفعت الأصوات الأمريكية والصهيونية المطالبة بإنهاء حماس، ازدادت قناعة شعوب المنطقة بأن المقاومة خيار أخلاقي وسياسي لا غنى عنه، وأن محاولات التشويه لن تلغي شرعيتها التاريخية والمعنوية ولن تثني الاحرار عن دعمها والوقوف إلى جانبها.
في المحصلة.. جاء تصريح روبيو ليجدد الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل، لكنه في الوقت ذاته يضع الدول العربية والإسلامية أمام اختبار جديد: هل تبقى مواقفها حبيسة الرمزية والبيانات، أم أنها قادرة على تحويل التضامن إلى فعل سياسي ودبلوماسي وقانوني ملموس يحمي السيادة ويمنح المقاومة الغطاء اللازم لمواصلة دفاعها المشروع؟
وبين خطاب القمة الرمزي وخطاب روبيو العدواني، تتكشف المعادلة بوضوح: الاحتلال يستقوي بالدعم الأمريكي، فيما يظل الصوت الفلسطيني المقاوم عاليًا، لأن الحق لا يُمحى، وكرامة شعب قدَّم آلاف الشهداء لا يمكن أن تُسلب.