ماجد المرهون
قبل الخوض في سياق الموضوع فإنه يتوجب عليّ اجتراح تحليل مبسط للشخصية الكاذبة، ولا أعني هنا الكاذب الصغير الذي أجبرته الظرفية المؤقتة؛ بل الذي ينتهج الكذب كأسلوب حياة لتبرير السلوك والظهور بهيئة الصادق في نظر الآخرين، وقد يستملح الكاذب المُخادع أكاذيبه حتى إذا استمرئ الأمر بعد فترة من الزمن صدقه، واعتقدَ أنه يحدث في شؤون قد وقعت بالفعل، وقد يصطنع عقله صورًا تخيلية تعضد أكاذيبه ليستسيغها ثم يدأب في الحديث بها عند النَّاس.
الكذب عمومًا يُعد سلوكًا بشريًا متعدد الوجوه، وأخطره عندما يتحول إلى وسيلة للتكيف أو للتلاعب بمسار الأحداث بغية تغييب الحقيقة وتحقيق مكاسب شخصية في قالب من الأنسنة والاستئناس حين يحاول الكاذب إضفاء صفة المصداقية على أفعاله وتصرفاته، وربما يعمد إلى تبرير بعضها لغايات نبيلة كما يتراءى له، وبالطبع هناك أبعاد ودوافع نفسية محفزة للكذب لعل أهمها الخوف من فقد مصلحة أو الرغبة في كسب منفعة، وهي مرحلة خطيرة لا ينظر الكاذب فيها للجانب الآخر المفضي إلى اكتساب مالا يحق له ولا يبالي بالأنظمة والقوانين والأعراف، بل إن العواقب المترتبة على ذلك والتي قد تصيب غيره بالضرر هي آخر ما يفكر به، وقد يكون الخوف أحد دوافع الكذب المُتعمد خشية العقاب أو قلة الثقة بالنفس، إذ يعمد الكاذب بسببها إلى تلميع صورته ليصل بها إلى المثالية المطلقة في المجتمع.
نجد حسب ما تقدم في السياق السابق أمثله من الناس شاهدة بيننا اليوم وحاضرة ولكنها قد لا تُشكل خطرًا كبيرًا أو قد تكون مكشوفة عند من يعرفهم، ويمكن للشخص الحصيف النبيه أن يلتقط علامات وسمات محددة تُمكنه من اكتشاف الكاذب وذلك في حدود التعامل الإنساني الطبيعي، ولكن المُفارقة تكمُن في وجود نوعٍ فاخر من السياسيين المُخادعين الذين اتخذوا الكذب منهجًا عمليًا وسلمًا ارتقوا به إلى منابِر القيادة والريادة والزعامة، ويحدثوننا ليل نهار بأكاذيب استمرؤوها وكأنهم يحدثوننا عن فضائل الكذب، وباتت تُشكل حقائق في محيطهم وتغلغلت إلى وعي العامة حتى اقتنع معظم الناس بأنهم على حق وأنه من غير المعقول أن يكذب ذلك الرئيس أو نائبه أو شخص رفيع المقام والمنصب، بل ولماذا يكذب؟!
كان السؤال تعجبياً وإن كان استفهامياً فنعم هم يكذبون وبكل صلف لأنَّ غاية المكاسب والمصالح مبدأ تُبرره وسيلة الكذب تحت الجلباب الواسع للسياسة، وما السياسة لاسيما الغربية التي تخدم صناع القرار إلا أكذوبة كبيرة يمررونها بلي أعناق الحقائق وصرفها عن مساراتها الواقعية وتخليق سياقات وهمية في نوعٍ من فلسفةٍ خشبيةٍ مُمِّلة أضحت مكشوفة لدى الطرف المُتضرر بينما لا يكتشفها أو يشعر بها من كانت كلتا يديه في الماء البارد، فيستخدم أحدهم الكذبة الظرفية المرحلية كل ما اعتلى المِنبر كما كان يفعل المتحدث الرسمي للبيت الأبيض -الأسود- في فترة رئاسة الشيخ الهرم جو بايدن ثم نكص ليعود بنفي وتبرير كل أكاذيبه عندما غادر منصبه، بالطبع فهو لم يتحصل على النفوذ الذي كان يطمح له.
وقد كان ريتشارد نيكسون رئيسهم السابق وكبيرهم الذي علمهم الكذب كاذبًا عظيمًا إذ خرج على المنبر عام 1973م بإعلان وقف مكافأة الدولار بمعيار الذهب وقال: "لاعتباراتٍ مؤقتة"، ومنذ حينه وإلى اليوم لاتزال تلك الاعتبارات المؤقتة قائمة، وما كان لذلك الرئيس البائد من خيار إلا مغادرة منصبه بالاستقالة مُكرهًا بسبب تجسسه على الحزب الديموقراطي فيما يُعرف "بفضيحة وُتَر جيت"، ومن بعده جورج بوش الهالك حين أعلن عام 2003م عن وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق ليبرر كذبته في الغزو وكان ما كان على أثرها مما يعلمه الجميع ثم يعلنون بعد موته أنها كانت غلطة وهكذا بكل بساطة، والأمثلة كثيرة جدًا لا يتسع المقام لسردها، وصولًا إلى كاذبهم الحالي دونالد ترامب والذي يمرر أكاذيبه للعالم كل ما سنحت له الفرصة عبر الإعلام ومواقع التواصل، منذ فترة رئاسته الأولى حينما أشاع كذبته في تزوير الانتخابات مما أشعل فتيل مناصريه وحفزهم على اقتحام مبنى الكابيتول، وأطيح به في حينها ليعود مجددا اليوم بقدرة أكبر من السابق على ممارسة الكذب بكل أساليب المكر والخداع.
إن ربيبهم نتنياهو ليس عنهم ببعيد، فقد غُذي عقله وبدنه بتلك السياسة ونشأ في حجرها وشرب من دَرِّها إلى الثمالة، فنجده يسوق الكذبة وراء الكذبة دون توقف ثم يتبعها بتهديد الجميع، ولا يتردد عقله المريض في التلذذ بالقتل ومشاهد الدمار الذي يلحقه بالآخرين إذ يبدو أن مسألة الكذب لدى ساسة الكيان الصهيوني مُتجذرة وقد تجاوزت مرحلة القابلية للتصحيح أو العلاج وضربت بأطنابها إلى المستوى الجيني، فهم يتوارثونها عبر الأجيال ولذلك لن تُجدي معها كل الأساليب الدبلوماسية ولا طاولات المفاوضات وقرارات الأمم وقوانينها ولا الأعراف الدولية والأخلاق الإنسانية، لأنها لا تصيب عقلًا طبيعيًا قادر على التفريق بين الحق والباطل أو التمييز بين الخير والشر، لقد استمرئ ذلك الكيان الأكاذيب وتشربها وأصبحت في نظرة جزء من حقيقةٍ يعتنق صلابة واقعيتها ولن ينفع مع تلك الشجرة الخبيثة إلا اجتثاثها وحرق جذورها.
إطالة الأمد في التعامل العقلاني والمنطقي مع ذلك الكيان الغادر ما هو إلا مد الحبل له لمزيدٍ من الأكاذيب والألاعيب التي تُمكنه من التسلق عليها لتحقيق أهدافه وبلوغ غاياته المُعلنة قبل الخفية، وإن لم تعد الخفية منها خفية بالمعنى الحرفي؛ حيث يجاهرون بها بين الحين والآخر، وما لا أجد له تفسيرًا هو بقاء العالم العربي والإسلامي رهين تلك السياسات الكاذبة المرافقة لأجساد الساسة كظلهم، ويتعاملون معها كأنها حقائق ويبنون عليها توجهاتهم وهم قادرون على تمييز الحقائق من الأكاذيب التي بات يعلم عنها الإنسان العادي حول العالم وحري بالقادة أن يكونوا أكثر علمًا بها وبتفاصيلها ولكنهم يتفرجون كالأيتام على موائد اللئام.