ظواهر أسرية تحتاج إلى وقفة

 

 

 

سلطان بن ناصر القاسمي

تظل الأسرة هي النواة الأولى لبناء المجتمع، وهي الميدان الذي تتشكل فيه القيم والمبادئ وتترسخ فيه المودة والرحمة. غير أنَّ المتأمل في واقعنا اليوم يلحظ بروز بعض الظواهر التي تستحق وقفة جادة، ليس من باب النقد فحسب، بل من باب الإصلاح والتوجيه، لما لها من أثر مباشر على استقرار البيت وتماسكه، ومن ثم على استقرار المجتمع بأسره. ومن المهم الإشارة إلى أنَّ هذه الظواهر مطروحة للنقاش، وقد لا يتفق الجميع على توصيفها؛ فالبعض قد يراها طبيعية في ظل متغيرات العصر، والبعض الآخر يعتبرها سلبية تهدد كيان الأسرة، بينما يرى آخرون أنها ظروف فرضتها أنماط الحياة الحديثة، مثل التزامات العمل للنساء أو متطلبات رعاية الأبناء.

لقد كان الماضي مختلفاً في تفاصيله، فعندما نسترجع صورة الأسرة قديماً، نكاد لا نرى ملامح ظاهرة غياب زوجة الابن عن بيت الأسرة، بل نجدها جزءًا لا يتجزأ من البيت الذي يجمع الأب والأم والأبناء والبنات، حيث تسود الألفة والتعاون والمحبة بينهم، ولا يشعر أحد بفرق في التعامل إلا فيما ندر. أما اليوم فنشهد تغيرا ملحوظاً، إذ بات من الشائع أن تُغادر الزوجة منزل أسرة زوجها أثناء وجوده في العمل، وكأنَّ البيت مجرد محطة مؤقتة للراحة، لا مكانا حقيقيا للعيش.

هذا السلوك يترك أثره السلبي على استقرار الحياة الزوجية، ويجعل الزوج يفتقد الشعور بالدفء الأسري، على الرغم من أنَّ بعض المبررات قد تكون مقبولة في حالات معينة، مثل ارتباط الزوجة بعمل أو انشغالها برعاية أطفال صغار بحيث تحتاج إلى دعم والدتها، إلا أن بقاء هذه الحالة بشكل دائم قد يثير في نفس الزوج تساؤلات كثيرة، ويجعله يستشعر أن مسؤوليته في النفقة والقيام بالواجبات لا تُقابل بالقدر الكافي من الاهتمام. ولعل الأهل بدورهم، من فرط محبتهم لابنتهم، يرضون بهذا الوضع دون إدراك لتبعاته على المدى البعيد، فيحدث ما لا يُحمد عقباه من ضعف المودة أو نشوب الخلافات مع والدي الزوج، وربما القطيعة. ومن هنا أرى أن استقلال الابن وزوجته في بيت منفصل قد يكون حلًا عمليًا للتقليل من هذه الإشكالية، مع الإبقاء على صلة الود بين الزوجة وأهل زوجها، وخاصة أن وجود الأحفاد مع الجدين يمثل لهم سعادة كبيرة لا تُقدّر بثمن.

ومن الظواهر الأخرى التي تحتاج إلى انتباه ما نراه من لجوء بعض الآباء إلى إعطاء أطفالهم الهواتف الذكية لإسكاتهم أو لتهدئة نشاطهم، ظانين أنَّ ذلك يحقق لهم هدوء البيت. غير أنَّ النتيجة تأتي بعكس المقصود، إذ يجد الطفل نفسه مشدودا إلى هذا الجهاز، يتصفح ويلعب ويكتشف دون رقابة كافية، فيصبح مع مرور الوقت أسيرا له، وربما مدمناً على استخدامه، بما يحمله ذلك من أخطار سلوكية ونفسية وصحية. وقد يقوده الأمر إلى تبني عادات وقيم خاطئة يصعب تصحيحها لاحقًا. لذا وجب على الوالدين التنبه لهذا الأمر، وأن يضعا بدائل أكثر أمانًا، مثل مشاهدة البرامج المخصصة للأطفال تحت رقابتهما، أو تشجيعهم على اللعب التفاعلي الطبيعي الذي ينمي عقولهم ويعزز تواصلهم الاجتماعي.

كما أن مسألة الاتكالية بين الأبناء في خدمة الوالدين باتت ملموسة في واقعنا. وقد جاء التوجيه الرباني في قوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (الإسراء: 23). ومع ذلك، نرى في بعض البيوت من يتنصل من هذه المسؤولية ويلقي بها على عاتق إخوته بحجة الانشغال، وكأن خدمة الوالدين عبء ثقيل وليست بابا من أبواب الأجر والبر. والأسوأ أن بعض الأزواج يتجاهلون دورهم في خدمة زوجاتهم، ويتركون ذلك للأبناء رغم قدرتهم، متناسين سنوات العطاء التي قدمتها الزوجة. وإن في قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21)، ما يذكر الأزواج بواجباتهم تجاه زوجاتهم، وما يحث الأبناء على القيام بخدمة والديهم برضا وحب.

أما ظاهرة إدخال الأطفال إلى الحضانات في سن مبكرة، فهي وإن كانت خيارا تفرضه ظروف العمل أو الانشغال عند بعض الأسر، إلا أنها تظل سلاحا ذا حدين. فصحيح أن الطفل قد يكتسب بعض الإيجابيات مثل الجرأة والاختلاط وتعلم مهارات جديدة، غير أن الحرمان من الحنان الأسري في سنواته الأولى قد يترك في نفسه فجوة يصعب ملؤها. بل قد يعود الطفل من الحضانة مرهقًا، لا يجد وقتا كافيا لمجالسة والديه أو اللعب مع إخوته، مما يفقده متعة تلك المرحلة العمرية. وهنا تبدو الحاجة ملحة إلى خلق بيئة أسرية غنية بالأنشطة والدفء داخل البيت، بحيث يجد الطفل فيها ما يغنيه عن غياب والديه أو انشغالهما.

إنَّ هذه الظواهر وإن بدت متفرقة، إلا أن خيطًا واحدًا يجمعها، وهو حاجتنا الماسة إلى إعادة التوازن داخل الأسرة، والعودة إلى القيم الأصيلة التي تحفظ استقرارها. فالبيت ليس جدراناً وسقفاً فحسب، بل هو حضن المودة ومصدر الأمان، وإذا ما اختل هذا التوازن بدأت المشكلات تتسرب إلى داخله. ومن هنا تبقى مسؤولية كل فرد- زوجًا كان أو زوجة أو ابنًا- أن يعي دوره، ويقوم به بصدق وإخلاص، حتى تبقى الأسرة عامرة بالسكينة، قوية في مُواجهة تحديات العصر، وقادرة على أن تمنح أبناءها ما يحتاجون إليه من دفء وانتماء.

الأكثر قراءة