د. صالح الفهدي
كانت الساعات الثلاث التي قضيتها وأبنائي مع المُكرَّم اللواء متقاعد سالم بن مسلم قطن في منزله العامر بصلالة، حافلةً بالدروس والمواقف القيادية المؤثرة، وهي ساعات لا تضاهيها المحاضرات التنظيرية في القيادة إطلاقًا.
لقد عرفته قائدًا عركته التجارب والخبرات طوال مسيرته الوطنية، على أن أعظم ما تتسم به شخصيته كقائد هو "الغيرة الوطنية" التي هي أعظم خصيصة في نفس القائد الأصيل، وهي خصيصة لا يساوم عليها طالما أنها تجعل الوطن نصب العين، في سارية خفاقة لا تطاولها سارية.
ولم أكن لأخفي تأثري بالمواقف الوطنية الأصيلة، ذلك لأنني أرى الوطن يتجسد في شخوص القادة التاريخيين الغيورين على مكتسباته، ومقدراته، وتاريخه، وهويته، وجميعها متجذرة العروق، عريقة الآماد، وهؤلاء هم القدوات والأعلام الذين تتجسد فيهم قيم وعراقة وحضارة الوطن قبل أن تتجسد في الصروح المادية الشامخة الصامتة.
وإذا كانت القيادة إلهام شخصية تمتلك السمات القيادية، فإن المكرم اللواء متقاعد سالم قطن، قد برهن على ذلك في مسيرته القيادية التي دلت عليها الإشارات والدلالات غير المألوفة وغير المعهودة في بعض الأحيان؛ فترقية مرؤوس لديه لا تقتصر على منح درجة، أو منصب، أو رتبة لإنسان بذاته، وإنما إسهام لتحسين وضع أسرة بأكملها، فلا يشعر فرد بالامتنان نحو التكريم بالترقية وإنما تشعر أسرة بأكملها.
وكذا العقاب في الجانب الآخر لا يمس فردًا بعينه، وإنما يطال أسرةً كاملةً؛ حيث تتضرر بما قام به من يعيلها، لهذا لا ينظر- باعتباره قائدًا- إلى الفرد ذاته، وإنما يوسع النظر ليرى مشاعر الأسرة بأكملها، كيف ستتأذى من جراء عقوبة تنال معيلها، وهنا يتأنى في قراره، ليكون حكيمًا، حصيفًا، فإن اتخذه راعى فيه منطق الرحمة، و"الرحمة فوق القانون" كما قال السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه.
أما منطقه في النظر إلى المواضيع والقضايا فهي نظرة متجردة من المحسوبية والتحيز للأفراد، ومنتصرة للمؤسسة التي حمل أمانتها، فلا يكون قراره عاطفيا، ينظر من خلاله لمصلحة فلان من الناس، وإنما شاملاً لمصلحة المؤسسة، ومصلحة المؤسسة تعني مصلحة الوطن في الاعتبار الأعم.
وإذا كان رحيمًا في نظرته عند اتخاذ القرار فذلك لا يعني أنه عند مقتضى الحزم أن لا يكون حازمًا، فهو يؤمن بالمبدأ الذي عبر عنه المتنبي في قوله:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر، كوضع السيف في موضع الندى
هكذا يكون الاتزان في مفهوم القيادة؛ بين لين مصلح، وحزم مقوم، ولا يدرك وضعهما إلا قائد محنك، يدرك متى يكون اللين، ومتى يكون الحزم.
أما منطقه في الإصلاح والتقويم فلا ينطلق من ثورة غضب، ولا من هياج انفعال، وإنما ينطلق من رحمة دواؤها أعظم من العقاب الذي يترك أثرًا أليمًا في النفس والمعاش قد لا يزول، ولهذا فمنطقه النصيحة للمخطئ ويكون باعث النصيحة الرحمة التي يكتنفها صدره اكتناف الزجاجة لنور المصباح.
وتتجسد غيرته الوطنية في تمسكه بالهوية الوطنية والحفاظ على رموزها ماديةً ومعنويةً، وعلى رأس ذلك الحفاظ على اللغة العربية، فأعظم ما يبغضه خلطها بمفردات أعجمية تقلل من قدرها، وتنقص من شأنها، ولا يخفي امتعاضه كلما وجد اسمًا أجنبيا، أو سمع مفردةً غير عربية، أو رأى لافتةً تجاريةً تعلي الأجنبية على العربية، ولا يكاد يقف مكتوف الأيدي دون تصحيحها أو النصح بشأنها، فضلًا عن اللباس الوطني عنده، وهو الدال على هوية الإنسان العماني، قبل أن يتكلم، فهو حريص عليه، بحكم أن اللباس العماني هو رمز هوية، وميزة شعب، حتى ليصبح اهتمامه أو تجاهله بالآخر عنده بحسب تمسكه بالهوية الوطنية حرصًا أو إهمالًا.
قائدٌ فذٌّ من القادة الأصلاء الذين تربوا فوق تربة عمان الزكية، لن أوفيه حقه أبدًا، مهما أطلت في حديثي عنه، بيد أنه جامعة في القيادة العملية وليس النظرية، أحرى أن يتتلمذ على أياديه قادة المستقبل، ليدركوا مغزى القيادة، وحكمتها، وروحها الوطنية.