الطليعة الشحرية
من المُدهش- أو ربما من المُخزي- أن العالم ما زال يتظاهر بالدهشة كل مرة تُكشف فيها جرائم إسرائيل في غزة، كأنَّ تصريحات قادة الاحتلال عن "محو غزة" أو "تشجيع التهجير" كانت مزحة في مقهى سياسي، وبينما تنهمر بيانات "القلق البالغ" من العواصم الكبرى، لا يتوقف تدفق السلاح والدعم السياسي بلا خجل.
منذ عقود، والعالم يتقن لعبة التواطؤ المزدوج، كلمات ناعمة عن "السلام والعدالة"، تقابلها شحنات أسلحة، وفيتو في مجلس الأمن، وصمت ثقيل أمام المجازر. هذا النفاق يتخفّى برداء القيم ليس نفاقًا من قبيل الصدفة، بل يوازي في رمزيته ما يصفه التقرير الأمريكي الأخير للسيناتورين "فان هولين" و"ميركلي" بأنَّه خطة مدروسة لتحويل غزة إلى أرض طاردة لأهلها. لكن خلف هذه السياسة الواقعية، يلوح بُعد ديني أيديولوجي عميق، حلم "المسيّا اليهودي المنتظر" الذي تتغذى منه الحركة الصهيونية في صورتها المتطرفة.
والمسيّا في المخيال اليهودي أو ما يُعرف بـ"ما شياح" هو القائد المُخلِّص الذي سيُعيد بناء "مملكة داود" ويقيم "الهيكل الثالث" في القدس، ويُوحّد العالم تحت حكم اليهود. هذا الحلم التاريخي ظلّ مصدر إلهام لليهود على مر القرون، لكنه مع قيام الحركة الصهيونية اتخذ بعدًا سياسيًا، فكل توسع، كل تهجير، كل تغيير ديمغرافي يُرى كخطوة تمهيدية لـ "العصر المسياني".
تُرجم الحلم الديني إلى خطة سياسية ممنهجة وبالغة التعقيد، وتتضح هذا السياسية الدينية بالنظر الى التقرير الصادر عن السيناتورين الأمريكيين الذي لا يقتصر على سرد وقائع إنسانية؛ بل يكشف أن خطة التهجير القسري للفلسطينيين لم تعد استنتاجًا؛ بل إعلانًا رسميًا من وزراء حكومة نتنياهو.
يوضح التقرير أنَّ حكومة نتنياهو وأركانها لم يعودوا يخفون استراتيجيتهم، تهجير الفلسطينيين من غزة، تدمير مقومات الحياة، تحويل الأرض إلى ساحة فارغة. هذا لا ينفصل عن خطاب بعض وزراء الحكومة، الذين يرون أن "غزة ستُمحى" وأن "كل غزة ستصبح يهودية". هنا نلمح التقاء بين الخيال الديني (تهيئة الأرض للمسيّا) والسياسة الواقعية (الهندسة الديمغرافية بالقوة).
ومن المعروف في الوعي الديني اليهودي المتطرف، أن قدوم المسيّا يتطلب "تطهير الأرض" من الغرباء وإعادة رسم الجغرافيا بما ينسجم مع "الوعد الإلهي".
ما يحدث في غزة- وفق التقرير- ليس مجرد حرب ضد حماس؛ بل خطة لإفراغ الأرض من سكانها الأصليين، المجاعة، الحصار، التدمير الشامل، ليست سوى أدوات لتحقيق شرط "التهيئة"، ليأتي المسيّا على أرض "نقية". وهذا ما يفسر حجم العنف الممنهج، فهو ليس مجرد تكتيك عسكري، بل استجابة لخيال لاهوتي متجذّر.
تتضح أبعاد السياسية الدينية باستخدام التجويع كعلامة زمنية، وذلك بالحصار الكامل، ومنع للدواء والغذاء، تجويع ممنهج يُسمى في التقرير "حملة متعمدة".
هنا يظهر التشابه الرمزي مع وصف المسيّا في الأحاديث وحدوث فتنة تسيطر على أرزاق الناس، فلا يُعطى الطعام إلا لمن يخضع، ويُترك الجائع ليموت إن رفض، هذه "السياسة الواقعية" التي يتحدث عنها التقرير هي في عمقها صورة حديثة عن "سلاح الفتنة" الذي يجعل الحياة اليومية نفسها وسيلة للإخضاع.
وما يزيد من إدراكنا لواقع الأيدولوجية الدينية هو الممارسة الممنهجة لهدم البنية التحتية لتحقيق رؤية الخراب الموعود. فتم تدمير ما يقارب 92% من البيوت، و94% من المستشفيات، و90% من المدارس، كُلها مدمرة، مدينة رفح الفلسطينية صارت ركامًا. هذا الخراب الشامل يُذكِّر بمفهوم "الفتنة العظمى"، خراب يعم الأرض، فيفقد الناس الأمن والماء والغذاء، وتُقلب القيم رأسًا على عقب. والجامع بينهما أن الهدف ليس مجرد انتصار عسكري، بل محاولة اقتلاع الأمل من النفوس.
الأخطر ليس ما يفعله الاحتلال وحده، بل ما يفعله ما يُسمى بـ"العالم الحر": يرفع شعارات القانون الدولي وحقوق الإنسان، بينما يغض الطرف عن المجازر ويواصل تمويل الحرب. هذا التواطؤ لا يبدو مجرد نفاق سياسي، بل يتماهى مع الرؤية المسيَّانية المتطرفة التي تعتبر الدماء والخراب تمهيدًا لـ "الخلاص". هكذا تتحول الديمقراطية إلى ستار يخدم مشروع الهيمنة، والحرية إلى أداة حصار، والإنسانية إلى سلعة انتقائية تُستدعى فقط حين لا تتعارض مع حلم "تهيئة الأرض" لظهور المسيّا المنتظر.
ومن المفارقة أن العالم الغربي، الذي يرفع راية "العلمانية" و"حقوق الإنسان"، يتواطأ مع مشروع يحمل ملامح دينية صريحة ويقدم خدمات غير معلنة للنبوءة. فبينما يسخر الغرب من أي خطاب ديني عربي أو إسلامي في السياسة، يتعامل مع "الحلم المِسيَّاني اليهودي" كخلفية شرعية لممارسات الاحتلال. وكأنَّ النظام الدولي نفسه يتحول- بوعي أو بغير وعي- إلى أداة تُمهّد المسرح لـ"المِسيّا المنتظر"، ولو على حساب إبادة شعب بأكمله.
بين المِسيّا في العقيدة اليهودية والدجال في التراث الإسلامي تقاطعات لافتة؛ فالمِسيّا عند التيار الصهيوني المُتطرف يُصوَّر بوصفه المخلّص الذي يجلب الخلاص لليهود عبر "تطهير الأرض" من الآخرين وبناء "سلام" يقوم على أنقاض الشعوب.
لكن في الرؤية الإسلامية، هذه الصورة ليست خلاصًا حقيقيًا، بل فتنة كبرى أشبه بفتنة الدجال: وعود براقة تخفي مشروعًا قائمًا على الخداع والظلم. وهكذا ينكشف زيف "الخلاص المِسيَّاني" كلما ارتبط بالدمار والتهجير، ليصبح علامة فتنة لا بشارة خلاص.
وإذا يقدّم التقرير الأمريكي أدلة على أن ما يجري في غزة ليس حربًا على حماس فقط؛ بل خطة منظمة للتطهير العرقي، وعند ربط هذه الوقائع بعقيدة المِسيّا المنتظر، يتضح أن المشروع الصهيوني يتحرك على خيط رفيع بين الدين والسياسة، والنتيجة دماء ومجاعة ونفاق عالمي يتغاضى أو يبرر.
لكن الأخطر أنَّ هذه المجازر ليست بالضرورة نهاية المشهد؛ بل قد تكون مجرد بداية؛ ففي الوعي الديني اليهودي المتطرف، لا يكتمل مشروع "تهيئة الأرض" إلّا إذا توسَّع ليشمل أجزاء من الدول المجاورة- من الأردن إلى لبنان وسوريا والعراق، وربما مصر- باعتبارها جزءًا من نبوءة الأرض الموعودة.
وهنا يصبح القتل والتهجير في غزة نموذجًا تجريبيًا لما قد يتسع لاحقًا، وصولًا إلى مسرح أكبر تتخيله العقيدة المِسيَّانية بانتظار المِسيّا المنتظر.
ويبقى السؤال المفتوح؛ هل سيستمر العالم في لعب دور "الشاهد الكاذب" حتى تتحقق هذه الأوهام على أنقاض شعوب المنطقة، أم ستأتي لحظة مواجهة صريحة مع هذا المشروع الأيديولوجي الدموي؟