د. سالم الفليتي
ظلت المنظومة التشريعية التي تحكم إجراءات التقاضي في الدعاوى التجارية- حتى وقت قريب- ممثلة في قانون تبسيط إجراءات التقاضي في شأن بعض المنازعات الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (125) لسنة 2020، وقانون الإجراءات المدنية والتجارية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (29) لسنة 2002 باعتباره الشريعة العامة لإدارة الدعاوى القضائية.
ورغم كفاية نصوص وأحكام قانون تبسيط إجراءات التقاضي عند صدوره إلّا أنها فيما بعد أصبحت يلحظ عليها النقص والقصور في مجاراة واقع الحياة الاقتصادية، ومن ثم باتت غير قادرة على تعميق دفة الاقتصاد بجانبيه الاستثمار والتجارة – خاصة في القطاعات ذات القيمة المضافة العالمية. فتنبه المشرع وأصدر قانونا جديدا وهو "قانون محكمة الاستثمار والتجارة" بموجب المرسوم السلطاني رقم (35) لسنة 2025. يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية في مجال القضاء والتحكيم، ويتسم بالسرعة في إدارة الدعاوى القضائية وتحديدًا الدعاوى الناشئة عن عقود الاستثمار، والمنازعات التجارية.
ويأتي قانون محكمة الاستثمار والتجارة- في خطوة غير مسبوقة- يستكمل فيها المنظومة التشريعية المحفزة للاستثمار الأجنبي والتجارة بما يحقق مفهوم "التنوع الاقتصادي والاستدامة المالية"، وبالأخص أولوية "القطاع الخاص والاستثمار والتعاون الدولي "وأولوية التشريع والقضاء والرقابة" في منظور مستهدفات رؤية عمان 2040.
ولنا في ذلك آيات عديدة:
- يظهر المشرع في القانون الجديد اهتمامًا بالغًا بعملية النمو الاقتصادي، ويعتبر الاستثمار الأجنبي المباشر والتجارة وجهين لعملة واحدة، كل منهما يكمل الآخر في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فجاء مسمى "محكمة الاستثمار والتجارة" انعكاسًا لرغبة السلطنة في تحقيق المزيد من الاندماج في اقتصاديات العالم – ويحمد المشرع كثيرًا – على هذا التوجه.
- يبتعد المشرع في القانون الجديد عن لغة التزيد والتكرار؛ تفسير ذلك أنه يتبنى عوضًا عن ذلك – الإحالة -، مثال ما ينص عليه في المادة (38) من القانون بالقول "مع مراعاة المدد والإجراءات المنصوص عليها في هذا القانون، وفيما لم يرد بشأنه نص خاص، تطبق الأحكام المعمول بها في قانون الإجراءات المدنية والتجارية بشأن الإجراءات المتعلقة بالدعوى وتنفيذ الأحكام." وهو توجه حديث يحمد المشرع عليه.
- يأخذ المشرع العماني في القانون الجديد – بمبدأ عدم رجعية القوانين – وهو عدم انطباق القانون على ما تم قبل نفاذه من دعاوى رفعت وتداولت قبل صدور القانون بدلالة المادة (2) من مواد إصدار المرسوم والتي تنص بأن " تستمر المحاكم في نظر الدعاوى والأوامر والطلبات التي أصبحت بمقتضى القانون المرفق من اختصاص محكمة الاستثمار والتجارة متى كانت قد رفعت قبل تاريخ العمل بأحكام القانون المرفق." وهو مسلك يتطابق تمامًا مع المادة (94) من النظام الأساسي للدولة التي تنص على أنه " كل ما قررته القوانين، والمراسيم والأوامر السلطانية، واللوائح، والقرارات المعمول بها في تاريخ نفاذ هذا النظام يظل ساريا، شريطة ألا يتعارض مع نص من نصوصه ". وحسنًا فعل المشرع ذلك؛ على اعتبار أن هذه الدعاوى تداولت – وقد يكون بعضها جاهزة للحكم فيها. فليس من المفيد احالتها إلى محكمة الاستثمار والتجارة لنظرها.
- نطاق تطبيق القانون جسدته المادة (11) منه بقولها " فيما عدا الدعاوى والمنازعات الإدارية والعمالية والإيجارية، تختص المحكمة دون غيرها، بنظر جميع الدعاوى التي يكون أحد أطرافها تاجرا والمتعلقة بأعماله التجارية، والمنازعات الناشئة عن عقد الاستثمار، بما في ذلك:..."، ويظهر المشرع صياغة محكمة؛ فهي صياغة تتوافق ونص المادة (13) من قانون التجارة التي تنص بأن " إذا كان العقد تجاريا بالنسبة إلى أحد المتعاقدين دون الآخر، سرت أحكام قانون التجارة على التزامات كل منهما الناشئة عن هذا العقد ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك. " فالمشرع يأخذ في هذا القانون "بنظرية العقد المختلط " وبالتالي يكفي أن ينعقد الاختصاص لمحكمة الاستثمار والتجارة متى كان أحد أطراف النزاع تاجرًا، بشرط أن تكون النزاعات محل التداعي تتعلق بالأعمال التجارية. ومثال العقد المختلط، عقد البيع الذي يجري بين مزارع في بيع محصولاته الزراعية لتاجر يقصد من شرائها إعادة بيعها، فهو عمل مدني بالنسبة للمزارع وعمل تجاري بالنسبة للتاجر. ومثال العقد المتعلق بأعمال التاجر، قيام هذا الأخير بشراء معدات لمؤسسته التجارية. ويحمد المشرع على ربطه هذا، على اعتبار ليس كل ما يقوم به التاجر من أعمال في طبيعتها عمل تجاري، فقد يقوم التاجر بعمل مدني لا يقصد منه المضاربة، بدلالة المادة (8) من قانون التجارة والتي تنص بأن " الأعمال التجارية هي التي يقوم بها الشخص بقصد المضاربة ولو كان غير تاجرًا".
- في الجانب الأخر يظهر المشرع فلسفة حديثة عند صياغته للمادة (11) سابق الإشارة إليها، آية ذلك أنه في صياغته هذه يلحظ تطابق تامًا في استظهار رغبته في المزيد من جذب الاستثمارات الأجنبية، فجاءت المنازعات الناشئة عن عقد الاستثمار في صدر المادة (11)، رغم أن المشرع أفرد لها – فيما بعد – البند (3) من المادة ذاتها "المنازعات المتعلقة باستثمار رأس المال الأجنبي والنشاط الاقتصادي.
وتعدد المادة (11) جملة من اختصاص محكمة الاستثمار والتجارة، وهي واردة على سبيل المثال لا الحصر ومنها:
- المنازعات الناشئة بين الشركاء في شركات التضامن والتوصية وشركات محدودة المسؤولية، أو بين المساهمين في شركات الأموال، كشركات المساهمة العامة، أو بين أيًا من هؤلاء الشركات أو المساهمين والشركة مثال ما تقضي به الفقرة (2) من المادة (22) من قانون الشركات التجارية على أنه "ويكون جميع الشركاء أو المساهمين في الشركة مسؤولين بالتضامن تجاه دائنيها عن أداء هذا الفرق للشركة، ويكون لهم حق الرجوع على الشريك أو المساهم الذي قدرت مساهمته بأكثر من قيمتها".
والمادة (24) من القانون ذاته التي تنص على أنه "إذا تخلف أحد الشركاء أو المساهمين عن تقديم مساهمته في رأس مال الشركة، كان لباقي الشركاء أو المساهمين مطالبته بتنفيذ ما التزم به تجاهها أو إخراجه من الشركة ...".
- المنازعات المتعلقة بالأصول التجارية: وتعي الأصول التجارية أي موارد أو ممتلكات مملوكة للشركة لها قيمة تجارية، بما في ذلك الأصول الملموسة وغير الملموسة. بمعنى آخر موجودات الشركة والذي عادة ما يكون أكبر أو مساويًا لرأس مال الشركة الذي تأسست به.
- المنازعات المتعلقة باستثمار رأس المال الأجنبي والنشاط الاقتصادي: وتعنى به الاستثمار المباشر المتمثل في إقامة مشروعات مملوكة ملكية كاملة لمستثمرين أجانب، أو امتلاكهم نسبة من الحصص تمكنهم من السيطرة على إدارة المشروع أو المشاركة في إدارته. ويعني في مفهوم قانون استثمار رأس المال الأجنبي العماني "استخدام رأس المال الأجنبي المباشر المستثمر لإنشاء مشروع استثماري أو توسعته، أو تطويره، أو تمويله، أو إدارته، أو تملكه". البند (و)، المادة (1) من قانون استثمار رأس المال الأجنبي المباشر.
- ويأتي قانون محكمة الاستثمار والتجارة استكمالًا للمنظومة التشريعية المحفزة لجذب الاستثمار الأجنبي لتحقيق أحد مستهدفات رؤية عمان 2040م، المتمثل في مساهمة الاستثمار الأجنبي ما نسبته (10%) عشرة في المائة من اجمالي الناتج المحلي. من هذه الضمانات والمحفزات التي يحظى بها المستثمر الأجنبي، عدم جواز مصادرة المشروع الاستثماري، وعدم جواز الحجز عليه، أو تجميد أمواله. وعدم جواز نزع ملكيته الا لمنفعة عامة وبمقابل عادل. وعدم جواز وقف أو الغاء الموافقة أو التصريح الممنوح له إلا بقرار مسبب وبعد إنذاره كتابة بالمخالفة المنسوبة إليه وسماع وجهة نظره، ومنحه مهلة لإزالة أسباب المخالفة قدرها المشرع بـ(30) ثلاثين يومًا تبدأ من تاريخ الإخطار.
ومع هذه الضمانات التشريعية التي يقدمها المشرع للمستثمر الأجنبي، يلحظ أن قانون الاستثمار الجديد قد خلا من نص يفيد عدم جواز تأميم المشروع الاستثماري الأجنبي، ونوصي المشرع النص على عدم جواز تأميم المشروع الاستثماري إلّا لاعتبارات المصلحة العامة للدولة، وبقانون، وبمقابل تعويض عادل. وأن يكون هذا التعويض العادل في مفهومه الدقيق ليشمل القيمة السوقية للمشروع الاستثماري وقت نزع ملكيته؛ لينسجم مع ما استقر عليه العمل في القانون الدولي والاتفاقيات الدولية لحماية الاستثمارات الأجنبية- هذا كله- حتى لا يقع القضاء في حرج شديد، وهو ينظر الدعاوى المتعلقة بعقود الاستثمار. كما أنه وعلى الرغم من تعدد هذه الضمانات التشريعية، إلا أن قانون الاستثمار الجديد لم يتضمن ما تحرص عليه بعض قوانين الدول في توفير الحماية التشريعية للمستثمر الأجنبي من أي تعديل أو الغاء للتشريعات التي تنظم أنشطته الاستثمارية، وهو ما يعرف "بمبدأ ثبات التشريعات" ويدرج كشرط في العقود الاستثمارية بمسمى "شرط الثبات التشريعي"، ومضمونه تعهد من الدولة المضيفة بعدم تعديل الإطار اللائحي المحيط بالمشروع الاستثماري، وسواء تم هذا التعديل بتشريع أو بأية وسيلة أخرى بغير موافقة الطرف الأجنبي، أو بدون إعادة التوازن الاقتصادي للمشروع. ونوصي المشرع- على الأقل- أن يضمن عقد الاستثمار ما يعرف "بشرط التوازن الاقتصادي" الذي يجيز للدولة المضيفة للدولة التعديل في تشريعاتها مقابل تعويض المستثمر ما حاق به من أضرار.
- المنازعات المتعلقة بالبيوع البحرية: ومثالها، البيع سيف (C.I.F)، وهو بيع بضاعة مصدرة بطريق البحر إلى محل معين ببدل مقطوع يشمل ثمن البضاعة والتأمين عليها وأجرة النقل بالسفينة. بدلالة المادة (136) من قانون التجارة. والبيع بالتسليم على ظهر السفينة (F.O.B) عملًا بنص المادة (140) من قانون التجارة. فالنازعات التي تتعلق بهذه الأنواع من البيوع تكون من اختصاص محكمة الاستثمار والتجارة.
- المنازعات المتعلقة بعمليات المصارف والأوراق التجارية والمالية وشركات التمويل والاستثمار وشركات التأمين، وتستثنى من ذلك الدعاوى المتعلقة بالأضرار الناتجة عن حوادث المركبات. ويحمد المشرع على هذا الاستثناء، حيث تكون المحكمة المختصة بنظر الدعاوى المتعلقة بالأَضرار الناتجة عن حوادث المركبات هي المحكمة التي يقع في دائرتها موطن المستفيد أو مكان المؤمن عليه، بدلالة المادة (49) من قانون الإجراءات المدنية والتجارية.
وتتعدد عمليات المصارف (البنوك) ومنها، وديعة النقود، ووديعة الأوراق المالية، وايجار الخزائن، والتحويل الحسابي، والاعتماد المستندي، وخطاب الضمان، وقد تكفل ببيانها، الباب السادس من الكتاب الثاني من قانون التجارة وتحديدًا في المواد من (339) إلى (414) منه. أما الأوراق التجارية فعددها الكتاب الرابع من قانون التجارة في أبواب ثلاثة، وهي الكمبيالة في المواد من (415) إلى (517). والسند لأمر في المواد من (518) إلى (522)، والشيك في المواد من (522) إلى (578).
- المنازعات المتعلقة بالإفلاس والصلح الواقي من الإفلاس، ويحمد المشرع على مسلكه هذا، على اعتبار أن قانون الإفلاس الجديد يظهر فلسفة حديثة، وهي حماية الشركات والمشروعات التجارية من خطر الإفلاس، وفي الوقت ذاته يضفي توازنًا ملحوظًا بين الحكم بإشهار الإفلاس وآثاره على التاجر المفلس وحقوق الدائنين في آن واحد. مثال ذلك، مفهوم التوقف عن سداد الديون الذي يجيز للمحكمة متى تحققت شروط الإفلاس فيتم إشهار إفلاس التاجر، فهذا المفهوم يختلف عن المفهوم الذي كان سائدًا، أي أنه وفقًا للمفهوم الحديث لا يجوز إشهار الإفلاس إلّا إذا صاحب التوقف عن السداد مركز مالي ميؤوس منه. وبالتالي لا يمكن التعاطي مع هذه الموضوعات وغيرها، إلّا من قبل قضاء متخصص، والأمر نفسه في الصلح الواقي من الإفلاس.
- المنازعات والطلبات ذات الصلة بالتحكيم: خاصة وإن هذا الأخير – كطريق استثنائي – يحظى باهتمام كبير في مستهدفات رؤية عمان 2040، خذ على ذلك مثالًا "أولوية التشريع والقضاء والرقابة".
- المنازعات المتعلقة ببراءات الاختراع، والعلامات التجارية والنماذج الصناعية، والأسرار التجارية، وغيرها من حقوق الملكية الفكرية "ولا جدال أن هذه المنازعات في حقوق الملكية الفكرية تمثل أهمية كبيرة نتيجة قيمتها التي تزاد بين الحين والآخر، - وحسنًا فعل المشرع ذلك -، عندها نص "وغيرها من حقوق الملكية الفكرية"؛ على اعتبار أن المستقبل قد يشهد حقوق ملكية أخرى لم تكن موجودة في الوقت الحالي.
- المنازعات المتعلقة بحماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، ومكافحة الممارسات الضارة بالمنتجات الوطنية في التجارة الدولية. وكذلك المنازعات المتعلقة بالمعاملات التجارية الالكترونية، والمنازعات المتعلقة بعقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص. فهذه جميعها ينعقد الاختصاص بنظرها لمحكمة الاستثمار والتجارة.
4- يذهب المشرع في القانون الجديد إلى بعد مغاير عما كان مقررًا في قانون تبسيط إجراءات التقاضي، آية ذلك، أن الدوائر المشكلة من (3) ثلاثة قضاة تختص بالفصل في الدعاوى التي تتجاوز قيمتها (10,000) مائة ألف ريال عماني، وكذلك الدعاوى غير مقدرة القيمة، والدعاوى التي لا يتجاوز قيمتها (100,000) مائة ألف ريال عماني، فتكون من اختصاص الدوائر المشكلة من قاض واحد. ويحمد المشرع على مسلكه هذا؛ على اعتبار أنه قسم الدعاوى على أساس قيمتها، مما يجعل الخبرة والتعدد مكانًا في هذا الشأن.
5- يُظهر المشرع في القانون الجديد فلسفة حديثة تتوافق وطبيعة المعاملات التجارية التي تتسم بالسرعة؛ تفسير ذلك، أن المشرع قصر ميعاد الاستئناف في جميع الدعاوى التجارية ودعاوى الاستثمار ليكون ميعاد الاستئناف (15) خمسة عشر يومًا، و(7) سبعة أيام في الأحكام الصادرة بالمحكمة العليا في المسائل المستعجلة، ويجوز الطعن في هذه الأحكام الصادرة عن الدوائر الاستئنافية أمام الدائرة التجارية خلال (30) ثلاثين يومًا.
** أستاذ القانون التجاري والبحري المشارك، قسم الحقوق، كلية الزهراء للبنات بمسقط