لا تتصدق عليَّ بحقي!

 

 

 

بثينة بنت حمد بن حمود القاسمية

خلق الله الكون بنظام دقيق، وأودع فيه سننًا تحفظ التوازن بين المخلوقات، حتى الحيوان له نصيب من الرحمة والحقوق. فكيف بالإنسان الذي كرّمه الله تعالى وجعله خليفة في الأرض؟ إن الإنسان لم يُخلق ليعيش على فتات المنح ولا على عطايا يتفضل بها غيره، وإنما له حقوق ثابتة تفرضها الشريعة، وتقرها القوانين، وتؤكدها القيم الإنسانية.

وحين نتحدث عن الحقوق، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو حق الطفل في التربية والتعليم. فالطفل لا يطلب من والديه صدقة حين يعلمه أبوه الصلاة أو حين تغرس فيه أمه مكارم الأخلاق. تلك واجبات ملزمة على الوالدين، وهي أمانة حملها الله إليهما. فإذا قصر الأب أو الأم في هذا الحق، فإنهما لا يضيّعان ابنهما فقط، بل يضيّعان جيلًا بأكمله.

وبالمثل، فإن الوالدين لا ينتظران فضلًا من أبنائهما عندما يكبران ويحتاجان إلى البر والرعاية. فبر الوالدين ليس هدية، بل فريضة أمر الله بها، وهي التزام أخلاقي عميق. الأبوان قدّما الكثير في صمت، وعاشا لأجل أبنائهما، فإذا جاء وقت رد الجميل فهو حق لا يحتمل النقاش.

وفي ميدان العمل، تتضح الصورة أكثر. فالموظف حين يطلب إجازته السنوية، أو يترقى بعد سنوات من الجهد، أو يعمل في بيئة آمنة وكريمة، فإنه لا يستجدي فضلًا من أحد. إنما يتمسك بحق أصيل كفلته القوانين والأنظمة، وجعلته القيم الإنسانية أساسًا للتعامل. وأخطر ما يمكن أن يحدث أن تتحول هذه الحقوق إلى منّة أو تُعرض وكأنها هبة، فإذا نالها صاحبها بدا الأمر وكأنه مكافأة خاصة، وإذا حُرم منها أو تأخرت، أوحى ذلك وكأنه يطلب ما لا يستحق.

وليس في حقوق العمل وحدها يتجلى هذا الخلل، بل في كل مجالات الحياة. فالمريض حين يذهب إلى المستشفى لا يطلب إحسانًا من أحد، بل يطالب بحقه في العلاج الكريم. والطالب في الجامعة لا يتوسل حين يسعى لفرصته في التعلم، وإنما يتمسك بحقه الأصيل في بناء مستقبله. وحتى الجار له حقوق ثابتة أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وليست هبات تُمنح أو تُمنع.

إنَّ أخطر ما يهدد المجتمع أن تتحول الحقوق إلى عطايا، وأن يُنظر إلى أصحابها كمتسولين لا أصحاب استحقاق. عندها تضيع القيم، ويترسخ الظلم، ويُختزل العدل في صورة مشوهة، وتنقلب المعادلة التي أرادها الله؛ في حين أن الأصل هو إنسان يؤدي ما عليه ويأخذ حقه بكرامة.

فلنتذكر دائمًا أن الحق واجب على من بيده القرار، وأن أداء الواجب امتحان للإنسانية. إنك حين تمنح الموظف إجازته أو تقدر جهده أو تستجيب لطلبه العادل، فإنك لا تزيد على أن تؤدي ما أوجبه الله عليك، وتبرئ ذمتك أمام نفسك وربك ومجتمعك.

فلا تقل لي إنك منحتني حقي، فأنت لم تتصدق به علي. حقي واجبك، وواجبك هو برهان إنسانيتك. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾، والعدل هو أن تعطيني حقي كاملًا غير منقوص، أما الإحسان فهو أن تزيدني فوق ذلك تقديرًا وكرامة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة