أنور الخنجري
في شمال ولاية ثمريت بمُحافظة ظفار، وعلى مشارف صحراء الربع الخالي، ترقد شَصْر، المدينة المطمورة التي أعادتها التنقيبات الأثرية عام 1992 إلى الواجهة بعد أن خبأتها الرمال لقرون طويلة. هنا تستريح المدينة في صمت يشبه الحكايات القديمة، حيث تروي أطلالها قصة ازدهارها على تقاطع طرق تجارة اللبان؛ ذلك الكنز العُماني الذي ملأ معابد الفراعنة وأسواق روما وبيزنطة.
ومن هذا الموقع أيضًا انطلقت الأساطير، حينما تخيل النَّاس أنَّ أعمدة المدينة الغابرة "إرم ذات العماد" ما زالت شاخصة تحت كثبان الرمال، في انتظار من يكشف عنها النقاب. لم تكن شَصْر إذن مجرد واحة عابرة أو محطة منسية على درب القوافل، بل موضعًا تتقاطع فيه الأسطورة مع التاريخ، حتى صارت تُعرف بأنَّها البوابة إلى "إرم ذات العماد"، المدينة التي ابتلعتها الرمال وبقي صداها خالدًا في النصوص المُقدسة.
ومهما يكن من أمر تلك الروايات التي تتأرجح بين الحقيقة والخيال، فإنَّ الآثار المكتشفة- من أساسات مبانٍ، وآبارٍ، وفخارٍ قديم، وبقايا حصن وأسواره- تؤكد أن شَصْر كانت مركزًا تجاريًا مزدهرًا، حيث كانت قوافل اللبان الظفاري تلتقي فيها قبل أن تمضي شمالًا إلى أسواق غزة وطيبة وبابل، ومنها إلى معابد الدنيا وقصورها. وما أعاد اسم شَصْر إلى دائرة الضوء العالمية في العقود الأخيرة هو ما أثاره الباحثون والمستكشفون من فرضيات بأن أطلال "إرم ذات العماد" ربما ترقد هنا، تحت هذه الرمال الصامتة.
اليوم، تمنح زيارة شَصْر السائح تجربة استثنائية تجمع بين رهبة الصحراء وعبق التاريخ؛ جدران انهارت لكن صداها باقٍ، وأساطير تلتقي مع واقعٍ ما زال حيًّا في نخيلها ومياهها الجارية وصحرائها الممتدة بلا نهاية. إنِّها أكثر من أطلال؛ إنها مرآة زمنٍ عتيق وصوت مدينة ترفض أن يُمحى اسمها من الذاكرة.
ولأنها جزء من طريق اللبان المسجل في قائمة التراث العالمي لليونسكو، فقد باتت شَصْر فرصة واعدة للمستقبل. يمكن أن تتحول إلى محطة بارزة في السياحة العُمانية عبر إنشاء مراكز للزوار والبحوث الأثرية، وإقامة مهرجانات سنوية تحتفي بإرث القوافل والبادية، أو إدراجها ضمن المناهج الدراسية، إلى جانب إقامة المخيمات الصحراوية التي تعيد للزائر تجربة الحياة البدوية. وبذلك، ستظل شَصْر- واحة التاريخ والأسطورة- تنبض بالحياة، وتتحول من صمت الرمال إلى صوت يحكي للعالم حكاية عُمان العريقة.