مؤيد الزعبي
هل سمعت من قبل عزيزي القارئ بـ"الدستور الإلكتروني" أو "الدستورية الرقمية" (Digital Constitutionalism)؟ لا تتفاجأ فحتى الدساتير والتي يعتبرها الكثيرون بعيدة عن المُساس بات الذكاء الاصطناعي يُهددها ويطلب بوجوب تغييرها لتتناسب مع ما هو مستجد، وعندما أتحدث عن الدستور الإلكتروني فهذا لا يعني أبدًا تحويل نص الدستور لنسخة PDF على الإنترنت، فلو تفكرنا قليلًا بحياتنا الحالية وقد سبق وأن أخبرتك في أطروحات سابقة بأنَّ حياتنا الرقمية تُشكل جزءًا كبيرًا من حياتنا لذلك وجب تحديث المبادئ الدستورية وحقوق الأفراد لمواجهة سلطات المنصات والأنظمة الخوارزمية، وصون الحقوق الأساسية في الفضاء الرقمي.
إنَّ الدساتير التقليدية تُواجه اليوم "عصرًا رقميًا" يُعيد بنائها من جذورها، وفكرة "الدستور الإلكتروني" لم تعد ترفًا إلكترونيًا بل واقعاً وضرورة، فالذكاء الاصطناعي يُعيد رسم العلاقة بين القانون والمجتمع، ويضع معايير جديدة للهوية الرقمية وحقوق الإنسان، لذلك في المستقبل وجب أن نكتب أو نُعدل دساتيرنا بلغة تشمل: المواطن الرقمي، الهوية البيومترية، الوكيل الإلكتروني الحياة الرقمية، أو حتى حقوق الإنسان الرقمية؛ لتصبح الدساتير أدوات مرنة يمكنها التكيف بسرعة مع العالم المتغير ولعل هذا هو التحدي الحقيقي المقبل كيفية تضمين حقوق رقمية جديدة مثل (الخصوصية الرقمية، حماية البيانات، حق الاعتراض على القرارات الآلية) في دساتيرنا الممنوعة من اللمس.
في الجانب العملي، علينا أن نخوض بشكل مُعمق في علاقة الذكاء الاصطناعي بالقوانين، خاصة وأن أنظمة الذكاء الاصطناعي بدأت بالفعل تلعب دورًا في الوظائف الحكومية التقليدية؛ مثل تخصيص الموارد، وتمكين الخدمات، وحتى تخصيص الرعاية الصحية، ودخولها في القضاء وأنظمة السير، هذه المنظومة تقودنا إلى أسئلة حول "من يملك السلطة"، و"كيف نضمن شرعية هذه السلطة"؟، وهل هذه السلطة "الخوارزمية" تكتسب شرعيتها من دساتيرنا الحالية، أم تجاوزتها خصوصًا وأن أغلب حياتنا الإلكترونية هي حياة عابرة للحدود فلم تعد الدساتير ولا القوانين قابلة للتطبيق في الفضاء الرقمي.
وبما أن العديد من حكومات العالم بدأت تُدخل أنظمة ذكاء اصطناعي هي التي تُقرر وهي التي تفصل في العديد من القضايا الحياتية، فنجد مثلًا برمجية ذكاء اصطناعي مسؤولة عن تحرير مخالفات مرورية، أو برمجية أخرى مهمتها إصدار أحكام قضائية بطريقة ذكية دون تدخل بشري، ولكن لا يوجد حتى الآن آليات واضحة لحقول الاعتراض على هذه القرارات أو الأحكام، ولذلك هناك تعقيدات كبيرة لكيفية معالجة مثل هذه الأمور، وهذا مثال بسيط تُبنى عليه الكثير من المشاكل والإشكاليات.
نحن نتحدث عن مستقبل ستصبح الآلة مدمجة في حياتنا فمن سيضمن لنا حقوقنا كأفراد وشركات ونحن نتعامل مع هذه الآلة، وكيف سننضم عمل الآلات فيما بينها وهي التي صممت وصُنعت من قبل شركات متعددة ستتنافس فيما بينها، كيف سنحقق التوافق بين مكونات المجتمع الجديد (مجتمع إنساني ومجتمع روبوتي) دون وجود قوانين ودساتير تُعبر عن هذا المجتمع المكون حديثًا، وإذا أمعنا النظر في علاقة الذكاء الاصطناعي ببعضه البعض وكيف يتم برمجته نجد بأننا بحاجة لدستور داخل لأنظمة الذكاء الاصطناعي بحيث تضمن لنا كبشر أن تصون حقوقنا في المستقبل خصوصًا وأن أنظمة الذكاء الاصطناعي تُعلم نفسها بنفسها فوجب أن نضبط طريقة تعلمها المستقبلية بدستور أساسه حقوقنا نحن البشر.
إذا أردنا أن نكون أكثر تطورًا فعلينا أن نُعيد التفكير في منظومتنا الدستورية بحيث نضمن أن تكون الشفافية الخوارزمية أو الإلكترونية واضحة، فلا يُعقل أن تتم محاكمتك بنموذج ذكاء اصطناعي أنت لا تعرف عنه أساسًا ولا تعرف كيف يعمل ولا من أي تغذى على البيانات، لذا وجب أولًا أن نقدم للمواطن شرحًا عن كل نظام ذكي يتم استخدامه في الحكومات، وثانيًا أن يكون هناك آليات واضحة تضمن حقهم في الطعن على القرارات الآلية وتحويله لنظام ذكاء اصطناعي آخر ليُعيد المحاكمة، أو عرضهم أمام قاضٍ بشري كحق للمواطن، وعلى مثل هذا نقيس ونعمم.
في ختام هذا النقاش العميق عن "الدستور الإلكتروني"، نجد أنفسنا في عتبة زمنٍ جديد، حيث لم يعد الدستور مجرد نصٍّ قانوني يُرفع على نُصب التاريخ، بل هو كيان حيّ ينبض بالتفاعل، ويستجيب لنبض التغيير التكنولوجي. إنه ليس مستودعًا للماضي؛ بل تحوّلٌ دائم نحو المستقبل.
في عالمٍ تسود فيه الخوارزميات والذكاء الاصطناعي قد نجد دساتيرنا تتبرمج، وربما يومًا ما تتمدّد لتصيغ حقوق الإنسان خارج البُنية الجسدية، كأن يصبح "المواطن" مزيجًا من الخوارزميات والمزايا المدنية التقليدية، وفي هذا المسار يمكن للدستور أن ينتقل من كونه وثيقة مقدّسة إلى تجربة رقمية تتبرمج وتدخل حسابات الخوارزميات، أجد أننا أمام اختبار للقدرة الإنسانية وقدرتنا على الاستمرار في صياغة نصوص تظل إنسانية، رغم تحول العالم إلى رقائق رقمية تعيد تعريف الإنسان نفسه.