د. إبراهيم بن سالم السيابي
وقف أستاذ علم الاجتماع أمام طلابه، وقال لهم بهدوء: "درسنا اليوم عن المواطن المُحبَط… من هو؟ وما الذي يجعله كذلك؟".
ثم مضى يشرح لهم من هو المواطن المُحبَط؛ فالمواطن المحبط ليس بالضرورة فاقد الوطنية أو ناقص الانتماء؛ بل قد يكون إنسانًا أحب وطنه يومًا بصدق، لكنه اصطدم بواقع قاسٍ لم يترك له مساحة للحلم أو نافذة للأمل. وما إن أنهى الأستاذ الدرس، نقف نحن أمام السؤال الأهم: لماذا قد يصل المواطن إلى هذه الحالة؟
الإحباط لا يأتي صدفة؛ بل هو حصيلة تراكمات يومية تبدأ صغيرة ثم تكبر شيئًا فشيئًا حتى تثقل كاهل الفرد. حين يعجز الإنسان عن تلبية احتياجاته الأساسية بسبب الغلاء المستمر وارتفاع تكاليف المعيشة، حين يبحث عن عمل كريم فلا يجده. وإذا وجده، يشعر أنه لا يوفر له استقرارًا أو أمانًا… حين يطرق أبواب الفرص فتغلق في وجهه، وحين يحلم بالسكن والبيت فيجد أن الطريق إليها مليء بالعقبات التي تتجاوز إمكانياته. وحين يحتاج إلى علاج فيجد أن الانتظار أطول من صبره، أو حين يطمح في تعليمٍ أفضل لأبنائه فيرى أن تكلفته أكبر من قدرته، حينها قد يزحف الإحباط إلى قلبه مثل ظل طويل يلتهم النور شيئًا فشيئًا، حتى يتحول مع الوقت إلى شعور عام يثقل صدره ويُطفئ حماسته.
والإحباط لا يتشكل فقط من الأزمات الاقتصادية أو المعيشية؛ بل أيضًا من غياب العدالة والشفافية والشعور بالمساواة. فالمواطن حين يرى آخرين يتقدمون لا بكفاءتهم، ولكن بوساطاتهم، وحين يلمس أن الفرص لا توزَّع على أساس الاستحقاق؛ بل على أساس القُرب والبُعد، يشعر أن جهده لا قيمة له، وأن تعبه لا يجني ثمرته، وهنا تتجذر مشاعر الظلم، والظلم إذا تراكم كان وقودًا للإحباط. كم من أب قضى الليل يفكر في مستقبل أبنائه، وكم من شاب رأى حلمه يتبدد أمام أبواب مغلقة وفرص ضائعة… وكم من امرأة انتظرت خدمة أساسية أو علاجًا أو فرصة تعليم، فوجدت أن الوقت لا يرحم أحدًا.
أما أخطر ما في الأمر فهو الأثر الذي يتركه المواطن المُحبَط على مجتمعه؛ فالإحباط يقتل روح المبادرة، ويغلق أبواب المشاركة، ويجعل الفرد ينكفئ على نفسه، باحثًا عن خلاص شخصي بدلًا من أن يسعى لبناء جماعي. وإذا اتسعت دائرة المحبطين، وجدنا أنفسنا أمام مجتمعٍ صامت، لا يحلم ولا يطالب ولا يقاوم. مجتمع يسير ببطء، يفتقد الطاقة التي تدفعه إلى الأمام. وأي وطن يستطيع أن ينهض في غياب أبنائه المؤمنين به، المندفعين من أجله، المتشبثين بأحلامه؟
ومن هنا، فإن مسؤولية مواجهة الإحباط لا تقع على المواطن وحده؛ بل هي مسؤولية مشتركة. والدولة مُطالَبة أن تزرع الأمل بسياسات واضحة وعادلة، وبقرارات تضع مصلحة الناس في مقدمة الأولويات، وبمصارحة تُعيد الثقة بين السلطة التنفيذية والمواطن، كما إن على المؤسسات أن تفتح نوافذ للأمل، وأن تتيح الفرص للجميع بميزان العدل والكفاءة.
أما المجتمع، فعليه أن يمدّ جسور التكافل والتشجيع، وألا يترك الفرد وحده في مواجهة أزماته.
إن أكبر استثمار للأوطان ليس في المشاريع وحدها، ولا في الأرقام الاقتصادية البرَّاقة؛ بل في قلوب مواطنيها. فإذا أطفأنا الأمل في داخلهم، فلن تضيء كل الطرقات المعبدة مصابيح الانتماء. وإذا فقد المواطن ثقته، فإن الوطن بأكمله يفقد روحه.
في الختام.. لنحرص على أن يبقى الأمل شعلة مُضيئة في قلوب الناس، نورًا يهتدي به كل من يريد أن يبني ويصنع ويحب وطنه بصدق؛ فكل وطن يستحق مواطنًا مؤمنًا به، وأن كل مواطن يستحق وطنًا يحمي أمله ويقدّر جهده. ولنزرع في النفوس ثقة بأن الغد سيكون أفضل، وأن كل جهد يُقدَّر، وأن كل صوت يُسمع، فالمواطن الذي يثق بوطنه هو شعلة لا تنطفئ، وورقة بيضاء يمكن أن تُكتب عليها أروع قصص النهضة. ولتكن أيدينا جميعًا- مسؤولون ومواطنون ومؤسسات- حامية لهذا الأمل، حافظة للثقة، صانعة لمستقبل يليق بما نحب في وطننا؛ فالوطن لا يُبنى بالحجارة وحدها؛ بل يُبنى بقلوب تؤمن به، وأرواح تُضيء الطريق للأجيال القادمة.