ريم الحامدية
هل فكَّرنا يومًا، حين اقتنينا الأشياء من حولنا، أي أثر ستتركه فينا؟ ما الذكرى التي سترتبط بها بعد لحظة فرح، أو موقف حزن، أو لقاء عابر؟ نحن في هذه الحياة نصنع للجمادات روحًا، ونمنحها من ذواتنا ما يجعلها شاهدة علينا. الكرسي الذي اخترناه بعناية ليزين الغرفة، هل خطر ببالنا أنه سيحمل على خشبه وجوه أحبتنا، وضحكاتنا، ودموعنا؟ أو أنه سيبقى بعد كل ليلة، محملا بأسرار جلساتنا الطويلة؟
وماذا عن الكتاب الذي يزين المكتبة أو يستقر على الطاولة، إنه لم يكن مجرد أوراق وحبر، بل نافذة صامتة شاركتنا أيامنا. كم مرة انسكبت دموعنا بين صفحاته، أو خبّأنا فيه سطورا لم نجرؤ أن نبوح بها؟ كم مرة تبادلناه مع من نحب، فصار أكثر من كتاب، صار ذاكرة حيّة؟
والكوب الذي تقاسمنا فيه القهوة، والصحن المزخرف الذي حمل قطعة كيك في مساءٍ عابرٍ، كم خفق قلب حولهما؟ كم سر مرّ عبرهما دون أن يُقال؟ أشياء قد يراها الآخرون بلا روح، لكنها بالنسبة لنا كانت أوطانًا صغيرة.
وكأنَّ العطر يهمسُ بيننا، والمقهى يحتضن ضحكاتنا، والصورة تحفظ ابتسامتنا، وكل شيء صغير حولنا يحمل نبضًا ويُخفي في صمته قصصنا كأنه جماد صار حيًّا بذاكرتنا.
الأشياء ليست جامدة كما نظُن، إنها تلتقط أنفاسنا، تحفظ بصماتنا، وتخبئ في زواياها ما لا نجرؤ على قوله، ربما نلمسها في يومٍ ما، فنسمع صدى ضحكةٍ قديمةٍ، أو نستنشق عبق دمعةٍ نسيها الزمن أو حتى تناسيناها نحن! كل ما حولنا يحملنا بقدر ما نحمله، وكل ما نتركه خلفنا يتحوّل إلى مرآة سِرِّية لنا، فعندما نصغي للأشياء نكتشف أنها لا تزال تتحدث، بصوت يشبهنا.
إنها التفاصيل التي تربطنا بالزمن، تُخلِّد لحظاتٍ طويلة وجميلة، وربما حزينة، نحن من نمنحها الروح حين نغمسها في دفء مشاركاتنا، خذ مثلًا "غطاء نوم الطفولة"، ذلك القماش البسيط الذي أصررنا أن يبقى معنا، ما قيمته في ذاته؟ لا شيء، سوى أنه احتضن أحلامنا الصغيرة، وخفف من وطأة خوفنا الأول من الظلام، وكان هو منبع الدفء والأمان الأول، فنحن من جعلناه حيًّا.
وبطاقة المُعايدة تلك، التي جاءت مع باقة ورد ذبُلت منذ زمن، لماذا احتفظنا بها؟ لأنها حملت لحظة شعور صادق، جعلتنا نبتسم، منحتنا سببًا للحياة في لحظة لم نكن نعيرها أي اهتمام.. ربما! حتى حين فقدت الوردة روحها، بقي الورقُ ينبضُ بذاك الشعور.
إنَّنا لا نتعلق بالأشياء لذاتها؛ بل لأننا نسكُب فيها ذرات من أرواحنا. كل شيء صامت يتحول إلى شاهد أمين على أعمارنا الصغيرة.. ورقةُ كتبنا عليها ملاحظة، كوبٌ ارتشفنا منه ببطء في لحظة حنين، مقعد خشبي شَهِدَ على جلسة طويلة مع صديق. كل هذه التفاصيل العادية تصير، مع الزمن، ذخيرة حياة كاملة.
قِفْ قليلًا، تنفَّس، استمِعْ لما حولك، ستكتشف أن الأشياء تهمس لك إنْ أصغيت بقلبك، ستكتشف أن كل كرسي هو حكاية، وكل كتاب هو ذاكرة، وكل كوب هو قلب آخر ينبض بداخلك، نحن من نمنح الحياة للجمادات، ونحن من نُعيد إليها الرُوح كلما تلمَّسناها بحنينٍ.
الأشياء الصامتة ليست بلا حياة، إنها تحمل أرواحًا. نحن من نزرع فيها الذكريات، ونُخبئ فيها وجوه من أحببنا، وضحكاتنا، وأحزاننا. هي مَرَايا صامتة تعكسنا، تحفظنا، تُبقينا أحياءً في ذاكرة الزمن، لذا امنح ما حولك نبضًا، وامنحه معنى… لأنك ستعود يومًا إلى كرسي قديم، أو كتاب منسي، أو كوب زجاجي بسيط، لتُدرك أن داخله حياة كاملة لم تفارقك أبدًا.