ريم الحامدية
تمُرّ الأعوام، لكنَّ الحنين لا يعرف التاريخ، يظل في القلب حيًا كما لو أن الفقد حدث البارحة، وفي هذا التاريخ من أكتوبر في كل عام تتجدد الذكرى الأشد حزنًا وهي رحيل أبي، الرجل الذي لم يكن مجرّد أب؛ بل كان ظلًا وسندًا ومعنى كاملًا للحياة.. رحل جسدًا، لكن حضوره لا يغيب عن تفاصيل الأيام، عن الذاكرة، ولا عن الدعاء الذي لا ينقطع.
كان أبي كريمًا بطبعه، بشوش الوجه، مطمئن الصوت، كأنَّ في نبرته وعدًا بالسكينة، ما كان ينتظر من عطائه شكرًا، ولا من إحسانه مقابلًا، كان يؤمن أن الكلمة الطيبة رزق، وأن الفضل لا يُقاس بما يُعطى؛ بل بما يُقال بعد الغياب، ولذا، ما زال الناس إلى اليوم يذكرونه بالخير، يروون مواقفه في المجالس، ويتناقلون أحاديثه وحكمه وكرمه، كأنها دروس متجددة في معنى الطيبة والإنسانية.
يفتخرون به كما نفخر نحن، حيًا وميتًا، وكأن ذكراه ما زالت تملأ المكان بالعطر والهيبة معًا.
كان أول من آمن بي، أول من رآني بعين ملؤها الفخر وأنا طفلة في السادسة من عمري، لا أزال أتعلم كيف أنطق الحروف بثقةٍ، كان أول الداعمين الذين رأو فيني القوة والعزيمة.
منذ تلك اللحظة، زرع فيّ القوة والإيمان، قوّى شخصيتي دون أن ينتزع مني الطفلة التي كنتها؛ بل كان يوازن بين الحنان والحزم، بين الدلال والتعليم، كنتُ مُدلَّلته- لو صحّ التعبير- لكنه الدلال الذي يصنع الثقة لا الضعف، دلال الأب الذي يرى في ابنته امتداد قلبه.
علّمني أبي أن القوة لا تعني القسوة، علّمني أن الطيبة لا تُنقص من الهيبة، وأن من يعيش بالنية الصافية يحيا في قلوب الناس إلى الأبد. كنتُ أظن أن الرحيل نهاية، لكنه أثبت لي أنه بداية أخرى: بداية لنضجٍ مختلف، ووعيٍ عميق، وصبرٍ لا ينكسر مهما اشتدّ الوجع.
ومع مرور الوقت، اكتشفت أن من يعيش نقيًّا لا يموت؛ بل يظلّ أثره ممتدًا في كل دعاء، في كل حكاية تُروى عنه، وفي كل شخصٍ يبتسم حين يُذكر اسمه.
كم من صديقٍ يُحدِّثني عنه وكأنه غاب البارحة، وكم من جارٍ يذكر مواقفه فيفيض الحديث دفئًا وفخرًا. وحين أسمعهم، أشعر أنني لا أرثي غائبًا؛ بل أحتفل بحياةٍ لم تنتهِ.
أبي لم يكن مجرد اسمٍ في بطاقتي، إنه الوطن الذي ألوذ إليه، السكن الذي ألجأ له حين تشتدّ الحياة، والسند حين أتعثر، والنور حين أضلّ الطريق، حتى غيابه علّمني.. علّمني كيف أواجه العالم وحيدةً دون أن أفقد طيبتي، وكيف أقف صلبةً على أرضٍ رخوةٍ مفعمة بالحنين.
واليوم، وأنا أكتب عنه، لا أكتب كلماتٍ من فراغ؛ بل أُسطِّرُ سيرة رجلٍ ما يزال صوته يرافقني في اختياراتي، في عملي، في مواقفي، في كل خطوةٍ أقول فيها "أبي كان سيفعل ذلك لو كان معي".
أكتب عنه لأن حروف اسمه تمنحني عزيمةً كلما خِفت، وصبرًا كلما ضعفت.
وما زلت- رغم الفقد- فخورة به كما كنت يوم كان بجانبي.. فخورة بأني كريمته، وبأن الناس تبكيه وتدعو له حتى اليوم، وبأن المجالس ما تزال تذكره بطيب المحاسن والأفعال، ولم يزدني هذا الشوق والحنين إلّا قوةً وعزيمةً على المواصلة، على أن أكون كما أرادني دائمًا: قوية، حقيقيةً، لا تُهزم مهما تعاقبت الخسارات.
سلامٌ عليك يا أبي في قبرك.. سلامٌ على سكينتك الأبدية، وعلى طيب ذكرك الذي لا يفتُر، وعلى محبّتك التي غمرتني في الحياة وبعدها. سلامٌ على وجهك الطيّب الذي لا يغيب، وعلى اسمك الذي سيظلّ يُقال بفخرٍ ما حييت.
سلامٌ عليك يوم مماتك ويوم تُبعثُ حيًّا...
