محمد بن زاهر العبري
حينما كانت الأُمية التقليدية تمثل العائق الأكبر أمام النهضة في العالم العربي خلال القرن العشرين، انطلقت حملات محو الأُمية لتعليم القراءة والكتابة، فكانت الخطوة الأولى لفتح أبواب التقدم.. لكن القرن الحادي والعشرين جاء بتحدٍّ مختلف، تحدٍّ أخطر وأكثر خفاءً: الأُمية الرقمية.
إنها ليست جهلًا بالحروف والكلمات؛ بل عجزًا عن التعامل مع أدوات العصر: الحاسوب، الإنترنت، البرمجيات، والذكاء الاصطناعي. في زمن تحولت فيه المعرفة إلى بيانات، وأصبحت التقنية لغة الاقتصاد والتعليم، يصبح الجهل الرقمي شكلًا جديدًا من العزلة، قد يضع مجتمعات بأكملها خارج حركة التاريخ.
تبدو الأُمية الرقمية اليوم وكأنها ظل جديد للأُمية التقليدية، فإذا كانت الأولى تحرم الفرد من قراءة كتاب أو كتابة رسالة، فإن الثانية تحرمه من قراءة شاشة أو كتابة سطر برمجي أو حتى استخدام تطبيق يفتح له فرص العمل والمعرفة. إن الفجوة بين الأجيال العربية في هذا المجال تتسع، فجيل الشباب يعيش تفاعلًا شبه كامل مع التقنية، بينما يعاني قطاع واسع من المعلمين والطلاب والمؤسسات من قصور في المهارات الرقمية الأساسية.
ولعل المعنى القرآني الخالد يؤكد هذه الحقيقة، حين قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 9)؛ فالآية لا تتحدث عن علمٍ محدد، وإنما عن قيمة مطلقة للمعرفة، قيمة تُخرج الإنسان من ظلمات الجهل إلى نور العلم. وفي عصرنا، لم يعد امتلاك هذا النور يقتصر على القراءة والكتابة، بل أصبح يشمل القدرة على التعامل مع التقنية وفهم أدواتها.
أنظمة التعليم العربية، في معظمها، لا تزال أسيرة أسلوب تلقيني يُركِّز على الحفظ والتكرار، بينما يترك طلابه عُزلًا أمام عالم رقمي لا يرحم. فكيف يمكن أن نُعد طالبًا لمستقبل يقوم على الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة وهو لا يُجيد سوى اجتياز الامتحان الورقي؟ هذه المفارقة تجعل من الأُمية الرقمية عدوًا صامتًا، يزحف داخل أروقة المدارس والجامعات دون أن يلحظه كثيرون.
وخطورة هذه الأُمية تكمُن في أنها لا تُعطِّل الفرد وحده؛ بل تُعطِّل الاقتصاد الوطني بأسره. الدول التي تفشل في تحويل أنظمتها التعليمية إلى بيئات رقمية مرنة ستجد نفسها عاجزة عن المنافسة، مستوردة للبرمجيات والخدمات، مستهلكة للتقنيات بدلًا من أن تكون صانعة لها. ومثلما كان محو الأُمية التقليدية مفتاحًا لبناء مجتمعات متعلمة، فإن محو الأُمية الرقمية اليوم هو مفتاح دخول الاقتصاد المعرفي العالمي.
المطلوب ليس مجرد تزويد المدارس بأجهزة حاسوب أو ربطها بالإنترنت؛ فهذا ما يشبه إعطاء كتب لمجتمع لا يعرف القراءة. المطلوب هو بناء عقل رقمي لدى الطالب والمعلم معًا، عقل قادر على التفكير بلغة البيانات والبرمجيات، وعلى تحويل التقنية من أداة استهلاك إلى أداة إنتاج. إن التعليم الرقمي الحقيقي يعني إدماج مهارات الترميز، والتفكير الحاسوبي، والتفاعل مع الذكاء الاصطناعي في صميم المناهج الدراسية، لا كمواد ثانوية أو نشاطات إضافية.
الأُمية الرقمية هي الخطر الخفي الذي يتربَّص بالأنظمة التعليمية العربية. إنها ليست مجرد فجوة معرفية؛ بل جدار يحول دون دخول أجيال كاملة إلى المستقبل. وإذا كانت الأمة العربية قد نجحت في تقليص الأُمية التقليدية عبر جهود جبارة في القرن الماضي، فإن معركتها الجديدة في هذا القرن هي محو الأُمية الرقمية. فمن يكسب هذه المعركة سيحجز مقعده في قطار المستقبل، ومن يخسرها سيظل عالقًا في محطات الماضي.