د. محمد بن عوض المشيخي **
هناك صراع أبدي عبر التاريخ بين من يتولى زمام الحكم من القيادات السياسية وبين المحكومين من أفراد المجتمع، وذلك من أجل السيطرة والعمل على كسب القلوب والعقول بهدف التحكم في الناس تارة بالقوة الغاشمة التي تكون نهايتها السقوط المدوي لتلك الأنظمة الدكتاتورية، وتارةً بجمع المعلومات التي تُساعد صناع القرار على معرفة الحقيقة، وخاصة نقاط القوة والضعف، والعمل على إزالة التحديات التي تواجه الناس نحو تحقيق العدالة الاجتماعية وفتح المجال للمجتمع المدني للمشاركة في القرارات المستقبلية للأمة، وهذا ما يعرف بالحكم الرشيد.
ويذكر جيل الأوائل من المؤسسين لعِلم الرأي العام، بقوته الضاربة على الرغم من أنه ليس لديه الأموال أو الجيوش الجرارة، إلّا أنه يُشرِّع القوانين للدول وللقضاة وحتى للملوك والقادة منذ فجر التاريخ.
وفي عصر ما يعرف بالثورة المعرفية التي تقودها شبكة الإنترنت والأجيال المتعاقبة لتكنولوجيا الاتصالات اللاسلكية، أتاحت المنصات الرقمية- وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي والمدونات وتطبيقات البودكاست- عالمًا جديدًا يزخر بالمعلومات بمختلف الألوان والأساليب المتطورة في الإقناع والإبهار، وعلى وجه الخصوص مقاطع الفيديو وقوة الصورة وحضورها في رحاب الجمهور المستخدم لتلك المنصات في مختلف دول العالم، والذين هم في الأساس جزء من العملية الاتصالية وشركاء ليس فقط كمتلقين- كما هو الحال في الإعلام التقليدي- الذي ينقصه التفاعل بين القائم بالاتصال والمستقبل للرسالة الإعلامية، ولكن كفاعلين كذلك. وتشكيل الرأي العام في العالم الواقعي والافتراضي يعتمد بالدرجة الأولى على المحتوى الهادف الذي كُتِب بعناية ويعرف مُدوِّنه طبيعة وخصائص الجمهور المُستهدف الذي يتطلب هنا من هؤلاء الذين يجدون أنفسهم محاصرين من تلك المنصات بتدفق معلوماتي؛ مما يترتب على ذلك الاطلاع، ثم المشاركة والتعليق، وبعد ذلك نقل الموضوع المطروح إلى أبعاد جديدة؛ بهدف التأثير على المجتمع وتوجيهه نحو اعتناق الأفكار والعمل على تقبلها، ثم تنفيذها من خلال الأساليب المعروفة، مثل كتابة الوسوم المُعبِّرة عن تلك القضايا التي هي في الأساس تهم الرأي العام ثم حشد الجمهور للتعليق وإعادة التغريدات كما هو الحال على منصتي (X وفيسبوك) لكونهما الأقرب لنشر الأفكار والقضايا السياسية التي تُلامس عامة الناس في هذا العالم الذي تحول إلى منزل صغير بفضل الإعلام بشقيه التقليدي والرقمي.
لا شك أن الجيوش الإلكترونية المتربعة في وسائل التواصل الاجتماعي والتي تُقدَّر بعشرات الملايين والتي تتحرك عند الحاجة في الزوايا المُظلمة لتلك المنصات بهدف شيطنة الخصوم المُفترَضين والخوض في حروب "الترندات" المُزيَّفة، قد جعل من المصداقية أولى الضحايا لهذا العصر الجديد. ففي أواخر العقد الماضي تم الكشف عن أكثر من خمسين مليونًا من أجهزة (البوتات) التي تعمل كذباب الإلكتروني في حروب الدعاية وأساليب غسل الأدمغة على منصة "إكس" التي كانت تسمى "توتير" في ذلك الوقت.
وتكمن القوة المطلقة لهذه العملية الاتصالية في "دمقرطة" الاتصال الذي كان حكرًا على الشبكات الإذاعية والتلفزيونية والمؤسسات الصحفية، والتي كانت تركز على كبار المسؤولين ونجمات السينما وكبار التجار المُعلنين، بينما يتم تجاهل الناس البسطاء من الظهور أو حتى التعبير عن المشاكل الحياتية التي تواجه العامة من البشر. من هنا ظهر إلى الوجود ما يعرف بمصطلح "المواطن الصحفي" كشاهد وناشر للأحداث في بيئته المحيطة مستخدمًا هاتفه الذكي الذي أصبح بمثابة محطة تلفزيونية صغيرة أو صحيفة إلكترونية، بينما يشكل البث المباشر للأخبار التأثير القوي على الرأي العام.
وفي الختام، يجب أن يدرك الجميع أنَّ الأنظمة والدول التي لا تعتمد على الدراسات الرصينة التي تتمحور حول حقيقة الرأي العام، وخاصة تلك التي تنشرها المراكز المتخصصة المزودة بكفاءات علمية يفترض أن يتم اختيارها بعناية؛ فالبديل هنا أن تلك الأنظمة قد تتحول بكل سهولة إلى دول فاشلة؛ فالغاية في الحصول على ذخيرة معرفية تساعد الحكام على التخطيط السليم والتنفيذ الأمين في المشاريع، بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل الانزلاق إلى الهاوية؛ فهناك خمس دول عربية- على سبيل المثال- تشتعل فيها حروب أهلية أكلت الأخضر واليابس واستنزفت مئات الآلاف من الضحايا، والسبب الرئيسي وراء تلك الكوارث الضبابية انعدام البصيرة وغياب الحقائق عن الجميع، مما جعل تلك الحكومات نماذج للدول الفاشلة في العالم، فآخر ما تفكر به تلك الحكومات هي الدراسات والبحوث العلمية لمعرفة اتجاهات الرأي العام.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري