حسين الراوي
"لن أتخطى عتبةَ الصواب إن قلتُ بأنني بدون المكتبات لا شيء. كل ما أعرف، كل ما كوّنني، كل ما صرتُه، كل ما سأكونه، أدينُ به -في جوهره ومعظمه- إلى الكتب". من كلمة ألقتها الروائية جوخة الحارثي ضيفةً على حفل افتتاح توسعة مكتبة تكوين، يوم الخميس 18 مايو 2023.
اخترت أن أفتتح هذا المقال باقتباس يضع القارئ أمام الجذر الحقيقي لتكوين جوخة الحارثي الأدبي والفكري؛ إذ لم تكن المكتبة مجرد مخزن للكتب، بل فضاءً للتفكير وصناعة الوعي. يقول غيلبرت هايت: "الكتب ليست أكوامًا من الورق الميت.. إنها عقول تعيش على الأرفف".
والكتاب هو البذرة الأولى التي تُغني التجربة وتُثري الخيال، والمكتبة هي المعمل الذي يتشكل فيه الكاتب المتميز. هناك تتكون الرؤية، ويُبنى العمق، ويتسع الأفق ليمنح الإنسان قدرة على تجاوز حدود زمنه ومكانه.
محور هذا المقال هو الدكتورة جوخة الحارثي، وليس رواية سيدات القمر. وإن جاء في ذهنك، عزيزي القارئ، اعتبار المقال عن الرواية، فاعلم أن ذلك مجرد تكريم لتلك الرواية التي كانت إحدى المحطات المهمة في مسيرتها الأدبية.
حين تفتح صفحات سيدات القمر، لا تدخل إلى رواية وحسب، بل إلى عالمٍ كاملٍ يفيض بوشوشات نساءٍ يبحثن عن الحرية تحت سماء مكتظة بالذكريات. هناك، حيث تتجاور الحكايات في قريةٍ صغيرةٍ على أطراف الزمن، تمتدّ السطور كجديلة من نور وظلّ، تعكس تحولات مجتمعٍ يخطو
من العزلة إلى الأفق الجديد. وجوخة الحارثي، التي تعلّمت أن تمنح الكلمات صبرَ النخل، كتبت روايةً استغرقت خمس سنوات لتزهر، فإذا بها تمنح الأدب العُماني نافذةً على العالم، وتنال بها المجد الذي لم يسبق أن نالته كاتبة عربية.
رواية سيدات القمر للكاتبة العُمانية جوخة الحارثي هي عمل أدبي عُماني عربي عالمي، حائز على جائزة "مان بوكر العالمية" (2019)، وجوخة هي "صاحبة أول جنسية عربية" تنال هذه الجائزة.
غربة جوخة الحارثي اللغوية في بريطانيا كانت الشرارة التي أطلقت رواية سيدات القمر، فكانت الكلمات حينها سجينة الحنين والاغتراب، لكنها تحولت مع الترجمة إلى 21 لغة، كأن الغربة ولّدت عالمًا جديدًا يتحدث بصوتها في أرجاء الأرض كلها.
سيدات القمر عمل أدبي واسع النطاق من حيث الزمن والمكان، يُصوِّر تحولات المجتمع العُماني عبر ثلاثة أجيال، من زمن ما قبل النهضة الحديثة إلى بدايات الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي. الرواية ليست فقط عن شخصياتها النسائية، بل هي عن عُمان نفسها: تاريخها، عاداتها، وجراحها المخفية.
جوخة الحارثي (مواليد 1978، عُمان) روائية وأكاديمية عُمانية، وأستاذة الأدب العربي بجامعة السلطان قابوس. حصلت على دكتوراه في الأدب العربي الكلاسيكي من جامعة إدنبرة، وجوخة تنتمي لعائلة علمية وأدبية معروفة من ناحية أهلها من والدها، ومن ناحية والدتها من جانب أخوالها.
رواية سيدات القمر طُبعت للمرة الأولى سنة 2010، عن دار الآداب في بيروت.
وبعد ثماني سنوات صدرت النسخة الأجنبية (الترجمة الإنجليزية) من رواية سيدات القمر في عام 2018، عن دار Oneworld Publications في المملكة المتحدة، وقد ترجمها إلى الإنجليزية الدكتور مارك ويبستر (Mark Webster)، حيث استغرقت ترجمتها للرواية عدة سنوات!
وفي العام 2019 حصلت جوخة الحارثي على جائزة "مان بوكر العالمية"، وهي جائزة أدبية مرموقة تُمنح سنويًا لأفضل عمل أدبي مترجم إلى اللغة الإنجليزية، (تُكافئ الكاتب والمترجم معًا على حد سواء)، حيث تمنح مبلغًا ماليًا قدره 50,000 جنيه إسترليني، يُقسَّم بالتساوي بين الكاتب والمترجم.
من خلال تتبعي عبر اليوتيوب لبعض الندوات والمحاضرات والكلمات واللقاءات التي أجرتها د. جوخة الحارثي، تكوّن لديّ من الناحية الفكرية الخطوط العريضة لشخصيتها ككاتبة، ووضوح ملامح أسلوبها الروائي بشكل جيد.
د. جوخة كاتبة متأنية جدًا، لا تهتم بالوقت بقدر اهتمامها بجودة ما تكتبه في النهاية. تخبرنا جوخة بأن رواية سيدات القمر كتبتها في خمسة أعوام، وكتبت رواية نارنجا في ثلاثة أعوام. أما الديوان الشِعري لجدها فلقد استغرق منها أكثر من عشرة أعوام من التحقيق! وتفسر جوخة هذا التأني بقولها إنها لا ترى سببًا للاستعجال. ذلك كان في جلسة حوارية مع الدكتورة جوخة الحارثي، لحصولها على جائزة "مان بوكر" في احتفائية نظمتها مؤسسة بيت الزبير لتكريم الكاتبة.
وأيضًا تقول جوخة الحارثي في تفسير الوقت الذي تمضيه في كتابة الرواية: "نحن لا ننهي في الحقيقة الرواية، نحن نتخلى عنها، يجب في لحظة معينة أن أمتلك الشجاعة وأقول: سأتخلى عن هذه الرواية، وإلا فإنها لا تنتهي، لأنني أظل أفكر فيها، وأظل أفكر في الشخصيات والأحداث". برنامج المشاء على قناة الجزيرة، تاريخ البث: 2018/4/12.
عزيزي القارئ.. أنا عاشق للاقتباسات الأدبية واعتبرها نوعًا من الفراسة الفكرية، وقد جمعت العديد منها في كتابي أغصان الكلام، ليضم أجمل وأعمق ما كتبه بعض المبدعين في ميادينهم المختلفة. فالاقتباسات المميزة تعكس عمق فكر قائلها وقدرته على التعبير عن المشاعر والأفكار بأسلوب مركز ومؤثر، وتفتح نافذة لفهم أفكار لا يمكن التعبير عنها بسهولة. وجوخة الحارثي تمثل نموذجًا واضحًا لذلك؛ فاقتباساتها تنقل تجربة إنسانية وفلسفية بأسلوب شاعري مؤثر، يجعل القارئ يتأمل ويستلهم ويختبر دهشة المعنى التي تمتد بسحرها إلى العقل والوجدان في آن واحد.
قالت جوخة الحارثي، في برنامج المشاء، على قناة الجزيرة: "اللغة.. هي هذا السحر الأسود الذي يغيرني ويطيرني، فحين أكتب أطير وأخرج من العالم الذي يفعل بي ما يشاء إلى عالم أفعل به ما أشاء".
هذا الاقتباس يكشف عن رؤية جوخة الحارثي للغة كقوة غامضة وسحرية؛ فهي ليست أداة للتعبير فحسب، بل وسيلة للتحرر والتحليق. في الواقع "العالم يفعل بنا ما يشاء"، أما في الكتابة فالكاتب يستعيد سلطته ويصوغ عالمًا بيده. اللغة عندها تتحول من كلمات إلى أجنحة تمنحه حرية ووجودًا جديدًا، وتفتح أمامه عالمًا بديلًا يتجاوز القهر والاضطرار.
هذا الاقتباس الذي جاء في رواية سيدات القمر: "لم يبقَ في قاع الروح ترابٌ نديّ يُصلح الزرع". يصوّر الروح الإنسانية كما لو كانت أرضًا جافة فقدت كل ما يغذي نموها الداخلي، مستعيرًا من الطبيعة لغةً لتصوير الجفاف النفسي والعاطفي وفقدان الإلهام أو الأمل، ما يمنح النص عمقًا شعوريًا ويثير تأمل القارئ في هشاشة الروح واحتياجها المستمر للغذاء الروحي لتزدهر من جديد.
في لقاء جوخة الحارثي على البرنامج الكوري: "ضيف على كي بي إس"، قالت ما ينطبق على جميع المجتمعات العربية: "بعض القراء من عُمان لم يتفهموا وجود مواضيع حساسة في الرواية، فكأنهم يعتقدون أن المجتمع يجب أن يُصوّر دائمًا أنه مجتمع مثالي، وهذا لا يمكن، لأن الكِتابة هي المختبر الحقيقي للأفكار والمجتمع وتناقضاته وكل هذه الأفكار".
الاقتباس يعكس موقف جوخة الحارثي من الكتابة كمرآة صادقة للمجتمع بكل تناقضاته، بعيدًا عن التجميل أو الصورة المثالية. ترى أن الأدب هو "مختبر للأفكار"، حيث يمكن معالجة مواضيع حساسة وطرح حقائق واقعية، ما يمنح القارئ فرصة للتفكير النقدي ومواجهة الواقع بجرأة ووعي.
أهم النقاط الملاحظة على الأسلوب الكتابي الروائي لجوخة الحارثي بصفة عامة وليس فقط في رواية سيدات القمر:
1- التركيز على المرأة وتجربتها وقضاياها، والمرأة هي المحور الرئيسي في روايات جوخة الحارثي، وتعدد الشخصيات النسائية سمة من سمات رواياتها. ولقد ذكرت الروائية جوخة الحارثي بأن هذا الأمر في رواياتها جاء بتلقائية دون تعمد، ومن دون انتمائها مثلاً للحركة النسوية.
2- المزج بين الواقعية والخيال، حيث تصوير الحياة اليومية الواقعية مع لمسات خيالية أو رمزية تعمّق المعنى.
3- العمق النفسي للشخصيات: تركيز على مشاعرها وأفكارها الداخلية، وتحليل دوافعها بشكل معمّق.
4- رتم روايات جوخة الحارثي كالثمرة التي أخذت كل وقتها في النضوج، حيث تكتب بتمهل تجده منعكسًا على تماسك الرواية في جميع جوانبها.
5- الخيال الغني والرمزية، حيث تستخدم جوخة الحارثي الرموز والاستعارات لإضفاء أبعاد متعددة على الأحداث، أقصد بذلك: البعد النفسي، والبعد الزمني، والبعد المكاني، والبعد الثقافي والاجتماعي، والبعد الوجودي والفلسفي، والبعد الجمالي.
6- جوخة الحارثي لا تميل إلى أن يكون سرد أحداث رواياتها منذ البداية خطوة بخطوة بشكل تصاعدي.
إن رواية سيدات القمر ليست مجرد حكاية عن الحب والفقد، ولا مجرد شهادة على زمن العبودية والتحولات الاجتماعية، بل هي مرآة تتعدد وجوهها كما تتعدد النساء اللواتي يعشن فيها. نقرأها فنرى ميا وأسماء وخولة، لكننا نلمح أيضًا ظلالنا نحن في انعكاساتها. ربما لهذا السبب عبرت الرواية حدود عُمان إلى لغات العالم، لأنها تحمل في عمقها سؤالًا إنسانيًا أبديًا: كيف يمكن للروح أن تظل حيّة، حتى لو جفّت الأرض من حولها؟
وبهذا، فإن ما تحمله سيدات القمر من عمق ورؤية، ليس استثناءً في أدب جوخة الحارثي، بل يمثل النمط العام لعوالمها الروائية جميعها. وأنا، عزيزي القارئ، حين أقرأ أعمال جوخة الحارثي، لا أجد نفسي أمام كلمات فقط، بل أمام عوالم كاملة تصوغها روحها المرهفة وفكرها الصادق. أدبها يعلمنا الصبر على التفاصيل، ويغمرنا بالخيال والوعي، ويجعلنا نرى الإنسان في أعماقه، لا في ظاهره فحسب. جوخة الحارثي ليست مجرد كاتبة، بل مرشد للخيال، ودليل على أن الكلمة المبدعة قادرة على أن توسع قلب القارئ وعقله معًا، وتجعل من كل تجربة أدبية رحلة لا تُنسى.