هندسة السلوك الجرمي

محمد رامس الرواس

نادرا ما تأتي الأفعال الإجرامية صدفة لأنها غالبًا ما تكون نتاج عملية معقدة من مجموعة تأثيرات وتوجيهات استباقية مختلفة أشبه ما تكون بهندسة دقيقة للعقل والسلوك، وهذا ما يُطلق عليه اليوم في علم الجريمة الهندسة السلوكية الجرمية، وهو علم يقوم عليه المتخصصون لمعرفة كيفية بناء شخصية المجرم وكيفية تشكيل أنماط تفكيره والدوافع لذلك، سواء كانت فردية أو بيئة اجتماعية أو حتى في مجال التقنية.

وحتى نقترب من الموضوع أكثر، لا بد وأن نعرج على تعريف مصطلح هندسة السلوك الجرمي الذي هو: الأساليب والعمليات التي تستخدم لتكوين أو تعديل السلوكيات حتى تؤدي إلى ارتكاب الجرائم، وتتم هذه الهندسة عن تخطيط، كما يحدث في العصابات الإجرامية المنظمة التي تدرب أفرادها لتنفيذ أنشطة مخالفة للقانون في بيئتهم متى ما كانت مهيأة اجتماعيا وثقافيا واقتصاديًا لمثل هكذا جرائم.

 إنَّ أدوات ومراحل تشكيل السلوك الجرمي تأتي عبر عدة مراحل منها التأثير النفسي والفكري والذي يتم عبر بث الأفكار المنحرفة والتحريضية المستمرة الممنهجة أو تعزيز العنف والانتقام بدلاً من قّيم التسامح والقانون، ثم تأتي مرحلة التدريب على المهارات الإجرامية فيقوم المخططون لذلك بتعليم الأفراد أساليب الاحتيال والسرقة أو الهجمات الإلكترونية مما يحول هذا الانحراف الفكري إلى قدرات عملية.

وثالث هذه العوامل هو وجود البيئة الحاضنة للجريمة من خلال نشر الفقر والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية وتفشي المؤثرات العقلية وغيرها من الأمور الشبيهة، وكل ذلك وغيره يصنع بيئة مناسبة لظهور المجرمين، بينما المرحلة الرابعة هي الأكثر خطورة لأنها التطبيع مع الجريمة، ويحدث ذلك عبر تكرار المشاهد الإجرامية سواء في الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي أو الأفلام أو الألعاب العنيفة وغيرها، مما يقلل لدى المتلقي خطورة الإحساس بالفعل الإجرامي ومن ثّم يسهل عليه تنفيذه.

والهندسة الرقمية للسلوك الجرمي في عصر التكنولوجيا الذي نعيشه اليوم أخذت منحى خطيرا جدا عبر انتشار الجرائم السيبرانية، فالمجرمون أصبحوا يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي لتجنيد الشباب أو لغسل أفكارهم أو لتعليمهم أساليب الاحتيال الإلكتروني، هذا التطور في حد ذاته جعل الجرائم أكثر ارتباطا بالمكان والزمان، وأكثر قدرة على عبور الحدود والاختراق حتى عن بعد.

وقبل الختام لا بد وأن نعرج على كيفية مواجهة هندسة السلوك الجرمي بالمجتمعات، ومن أجل ذلك لا بد أن تكون التربية الأسرية والمدرسية والوقاية والوعي الاجتماعي عبر غرس قيم القانون والمواطنة الصالحة منذ الصغر، ومن ثم نتجه إلى الرقابة الرقمية وتتبع الأنشطة المشبوهة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت قبل تصنيفها جرائم فعلية، هذا بجانب معالجة موضوع العدالة الاجتماعية بالمجتمعات من خلال القضاء على بذور الفقر والبطالة التي تغذي السلوك الجرمي وتنميه وتساعد على تفشيه، وهو أمر من الأهمية القصوى، ولأجل أن ننشر ذلك لا بد أن يكون للإعلام المسؤول الدور البارز في تقديمه المحتويات المُعززة للقيم الإيجابية بالمجتمع عبر سلسلة متواصلة من البرامج التوعوية.

ختاما.. إنَّ هندسة السلوك الجرمي ليست فكرة نظرية بحتة، بل هي واقع أصبحنا نعيشه وهو نتاج حدوث أزمة أو قل أزمات مجتمعية أو برمجة ذهنية، تمت على مراحل لفرد أو مجموعة أفراد على مراحل، وأن إدراك هذه الحقائق هي خطوة أولى لوضع استراتيجية فعَّالة لمكافحة الجريمة ليس فقط قبل وقوعها، بل قبل أن تولد في عقول مرتكبيها.

الأكثر قراءة