الشّرْقُ يُصافِحُ الغَرْبَ

بدر بن خميس الظفري

@waladjameel

كتب الشاعر الإنجليزي روديارد كِبلنْغ قصيدته المشهورة «أنشودة الشرق والغرب» عام 1889، وهي قصيدة تتكوّن من 72 بيتًا أو ما يعادل 36 مقطعًا شعريًا مزدوجًا. إلا أنّ الذي اشتهر منها مقطعٌ واحدٌ فقط يقول فيه: "الشرقُ شرقٌ، والغربُ غربٌ، ولن يلتقيا أبدًا، حتى تقومَ الأرضُ والسماءُ لحكم ربٍّ جليل"، وكثيرًا ما يستدلّ المثقفون والكتاب بهذه العبارة على استحالة التقاء ثقافة المجتمعات الشرقية مع الثقافة الغربية.

لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن كِبْلِنْغ كتب بعد هذا المقطع في القصيدة نفسها عبارة أخرى تُكمل المعنى، وهي: "لكن ليس هناك شرق ولا غرب، ولا حدود، ولا نسب، ولا ميلاد، حين يقف رجلان قويان وجهًا لوجه، ولو أتيا من أقاصي الأرض"، ليستدرك ما جاء في المقطع الأول، ويسرد لنا حكاية شعرية رمزيّة يتخيل وقوعها في الهند، يوضح فيها إمكانية الاندماج البشري بين الثقافات المختلفة.

تقع أحداث الحكاية التي ترويها قصيدة كِبْلِنْغ على الحدود الشمالية الغربية للهند إبان عهد الاستعمار البريطاني، إذ يقوم زعيم قبلي من مقاتلي الحدود يُدعى "كمال" بسرقة المهرة الأصيلة التي يفتخر بها كولونيل بريطاني. يهبّ ابن الكولونيل، وهو ضابط شاب في سلاح الفرسان، لتتبّع اللص الشجاع واستعادة الفرس، فينطلق وحيدًا إلى أراضي القبائل مخاطرًا بحياته. يتمكّن الشاب من اللحاق بزعيم القبيلة عند مشارف معقله مع بزوغ الفجر، وتدور بينهما مطاردة شرسة على ظهور الخيل عبر الوديان الوعرة. وحين يتعثر حصان ابن الكولونيل أثناء عبوره النهر، يمد كمال يده لينقذه من الغرق بدلًا من أن يتركه يلقى حتفه.

هنا يبدأ الإدراك المتبادل والتقدير بين الخصمين؛ كلاهما فارس نبيل وشجاع، رغم أنهما من عالمين متباعدين. عند هذه اللحظة الفارقة يقف الرجلان وجهًا لوجه وقد انهارت الحواجز بينهما. يعيد كمال الفرس المسروقة إلى ابن الكولونيل تعبيرًا عن احترامه لمنافسه، بل ويقدم له لجام الفرس المزخرف وسرجها المبطن هديةً تقديرًا لبسالته. عندئذٍ يبادر ابن الكولونيل بدوره إلى تقديم سلاحه الشخصي إلى كمال قائلًا: "لقد أخذتَ مسدسًا من عدو، فهلّا تأخذ نظيره من صديق؟".

هكذا تحولت المطاردة الدرامية إلى صحبة إنسانية فريدة جمعت بين رجلين لم يَحُلْ اختلاف منشئهما وثقافتهما دون نشوء صداقة واحترام متبادل بينهما. بنهاية القصيدة، يرسل كمال ابنه الوحيد ليخدم مع ابن الكولونيل دليلًا وحارسًا له، فيصبح الشابان كالإخوة، وتتحقق بذلك نبوءة كِبْلِنْغ الشعرية بأن القوة والشهامة كفيلتان بتجاوز فجوة الشرق والغرب.

ورغم أن كِبْلِنْغ صَوّرَ في مطلع قصيدته فجوة عميقة بين الشرق والغرب، فإن التاريخ والواقع يشهدان بأن التفاعل بين الحضارات الشرقية والغربية أعمق وأقدم مما يُظن.

يشير الباحث والمفكر العراقي علي الكاش في مقالة له في موقع "مفكر حر" إلى أن الحضارة العربية الإسلامية تداخلت مع بقية الحضارات عبر الزمن، مما جعل "النسيج الحضاري العالمي متشابكًا يكمل بعضه البعض بطريقة منسقة وجمالية مكتملة الصورة"، مؤكدًا أن عملية التواصل والتداخل الحضاري ضرورية كي "تستفيد منها بقية الأمم".

وقد أثمرت حالات عديدة من اللقاء الحضاري عن ازدهار معرفي وفني متبادل بين الشرق والغرب، وفي التراث الأدبي العالمي أمثلة بارزة على هذا التلاقح الثقافي. فقد استوحى الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري بعض مشاهد قصيدته الملحمية الطويلة، "الكوميديا الإلهية" من كتاب "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، كما تأثر الأديب الألماني غوته بالأدب الشرقي، من حكايات "ألف ليلة وليلة" إلى قصائد حافظ الشيرازي، عند تأليف ديوانه "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي".

كذلك الأمر في العلوم والفلسفة؛ إذ نهل علماء أوروبا في عصر النهضة من منجزات الحضارة الإسلامية في الرياضيات والطب والفلك، بينما اقتبس مفكرو الشرق في العصر الحديث الكثير من مفاهيم الحداثة الأوروبية في السياسة والاجتماع. هذه الشواهد التاريخية تدل على أن حضارات الشرق والغرب التقت وتفاعلت مرارًا بالرغم من اختلافاتها.

مع ذلك، ظل هناك من يؤكد على هوّة الاختلاف الحضاري ويرى استحالة تجسيرها. يذكر الراحل إدوارد سعيد، أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا، أن كِبْلِنْغ نفسه تأثر بالواقع الاستعماري الذي عاشه، فرأى العلاقة بين الغرب المستعمر والشرق الواقع تحت السيطرة بمنظار السيد والعبد، وافترض عدم إمكانية التقائهما على قدم المساواة.

وفي العصر الحديث، طرح عالم السياسة الأمريكي صامويل هنتنغتون عام 1996 نظريته "صدام الحضارات". ذكر فيها أن الصراع الثقافي سيشكل محور السياسة العالمية بعد الحرب الباردة. بل إن مقولة "الشرق شرق والغرب غرب" عادت للانتشار عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 بوصفها تجسيدًا لحالة التوتر بين العالمين، واستُند إلى طرح هنتنغتون لتأكيد أن الصراع هو محدد العلاقة بينهما.

في المقابل، ظهرت أصوات تدعو إلى التقارب وحوار الحضارات. ففي عام 1997 اقترح الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي أمام الأمم المتحدة مبادرة "حوار الحضارات" سعيًا لتفنيد نظرية الصدام. وقد رحّبت المنظمة الدولية بالفكرة، فأعلنت عام 2001 عامًا دوليًا لحوار الحضارات وعينت الدبلوماسي الإيطالي جياندومنغو بيكو ممثلًا خاصًا لتنفيذها.

وانطلقت منذ ذلك الحين عشرات المؤتمرات والمبادرات التي تشجّع على التفاهم والتعايش بين العالم الإسلامي والغرب على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، إيمانًا بأن الحوار والتعاون كفيلان بكسر الحواجز التاريخية بين الشرق والغرب.

تقدم لنا قصيدة "أنشودة الشرق والغرب" نموذجًا أدبيًا بالغ الدلالة على إمكانية لقاء حضارتين ظن البعض أنهما لن تلتقيا أبدًا. فرغم الاختلاف الشاسع في الثقافة والنشأة، استطاع بطلان من مشرق الأرض ومغربها الوقوف وجهًا لوجه كندّين، وتجاوزا بنبل القيم الإنسانية تلك الفوارق الظاهرية. ولعل في هذه القصة الشعرية إلهامًا معاصرًا بأن قوة الصداقة والتفاهم يمكن أن تبدد عُقَد الماضي، وأن الشرق والغرب يمكنهما أن يتصافحا ويجدا أرضية مشتركة إذا توفرت الإرادة والإخلاص لتحقيق ذلك.

الأكثر قراءة