ريتّا دار
Darrita936@gmail.com
قرأتُ مرة تعليقًا عابرًا: "أصوات الرّحابنة لا تغنّي فقط، بل تبني لك وطنًا صغيرًا بداخلك لتسكنه حين يتعبك العالم".
ابتسمت. لأنّ الجملة، رغم بساطتها، تقول كلّ شيء.
لكن ماذا عن زياد؟ ماذا عن الذي لم يكتفِ ببناء الوطن، بل مزّقه قطعة قطعة على المسرح، وأعاده إلينا محشوًّا بالأسئلة؟
زياد لم يكن مطربًا ولا شاعرًا ولا سياسيًّا، بل كلّ هؤلاء دفعة واحدة.
هو الرّجل الّذي رفض الاصطفاف، وأحبّ البلاد دون أن يجامِلها، وكره الحرب دون أن يُجمّل السّلام.
الرّجل الّذي دخل الحياة من نافذة مختلفة، وظلّ واقفًا على حافّة القصيدة، يسخر من اليقين، ويخربش على جدراننا شعارات لا نملك إلّا أن نؤمن بها، ولو ليوم واحد.
حين كان النّاس يغنّون للحبّ، كان زياد يكتب عن الخيبة.
وحين كانت الأغاني ترشّ المهدّئات على الجراح، كان هو يفتحها بأصابعه ليُريك الصّديد والملح.
لم يكتب لنا لنفرح فقط، بل لنفكّر.
لم يؤلّف موسيقاه لنرقص، بل لنتعثّر وننهض وننظر خلفنا، ونسأل: لماذا صارت الحياة بهذا الشّكل؟
في أغانيه، تسمع الطّفل الذي لم يكبر لأنّ الحرب دمّرت مدرسته.
والأب الذي يعمل في ثلاث وظائف ولا يملك ثمن دواء زوجته.
والعاشقة التي تنتظر حبيبًا لا يأتي لأنّ "الفيزا مرفوضة".
زياد لا يُشبه أحدًا.
حتى والدته، السيّدة فيروز، لا يمكن مقارنته بها.
هي من عالم آخر، من طُهر الغيم وحنان الصباح.
أما هو، فمن طين المدينة، من وجع الطابور، من همس المقاهي، من سعال الحواري الضيّقة.
هناك شيء حقيقيّ جدًّا في موسيقاه. شيء يجعلك تقول: "هذا يشبهني".
في مسرحيّاته، حين يصرخ البطل في وجه النّظام، أو يشتم الحياة، أو يسكر من فرط الوجع، تشعر أنّك هناك.
لست متفرّجًا، بل شريكًا في الانهيار، شاهدًا على هشاشتنا الجماعيّة.
كان يمكن لزياد أن يكون مطربًا عاديًّا، أو مؤلّفًا موسيقيًّا كلاسيكيًّا، أو حتّى كاتبًا يرضى بالتّصفيق.
لكنّه اختار الطّريق الأصعب: أن يكون مرآةً مشقّقة للعالم العربي.
أن يُحبّنا رغم كسلنا، ويصرخ فينا رغم أننا لا نُصغي.
أن يحلم، ثم يضحك من حلمه، ويعود إلى البيانو، ليكتب لنا لحنًا جديدًا عن تعب الحياة.
اليوم، وبعد كل هذه السّنوات، لا يزال زياد هناك.
في الخلفيّة الصوتيّة لذاكرتنا، في تفاصيل المدينة التي نحبّها رغم ما فعلت بنا.
يكفي أن تسمع جملة من أغنية قديمة، ليعود كلّ شيء.
الرّغبة في البكاء بلا سبب.
الحنين لأناس لم نعرفهم.
والحزن الجميل، ذاك الذي لا يُميتك، بل يذكّرك أنّك ما زلت إنسانًا.
زياد لم يعتذر عن فوضاه.
ولا حاول أن يُرمّم صورته.
هو كما هو: فوضويّ، ساخر، غاضب، شفاف حدّ الأذى.
في كلّ هذا، كان وما زال، من أكثر النّاس صدقًا.
وهذا وحده، كفيل بأن يجعل له مكانًا في القلب، لا يشيخ ولن يتضعضع.
لكنّه رحل.
في صباح خريفيّ، كما يليق بمن كتب عن تعب الخريف أكثر ممّا كتب عن فرح الربيع، انسحب زيّاد الرّحباني بصمت.
لم يُودّعنا بخطبة، ولا ببيان، ولا بأغنية وداع، بل ترك البيانو مفتوحًا، والمسرح خاليًا، والكرسيّ الذي اعتاد الجلوس عليه بلا صاحب.
رحل زياد كما عاش، خارج التّوقيت، وخارج التّرتيب العاطفيّ الذي اعتدناه.
رحل وتركنا نبحث عن أنفسنا في صدى موسيقاه، ونرتّب حزننا كما نرتّب ذكرياتنا القديمة: بلا منطق، وبكثير من القلب.
هو مات، نعم.
لكن كلّ مرّة نسمع فيها لحنًا من ألحانه، أو نقرأ سطرًا من مسرحيّاته، نشعر أنّه يطلّ علينا من زاوية ما، ويقول بلكنته السّاخرة المعهودة: "شكرًا جدًّا جزيلًا".