خالد بن سالم الغساني
ستجتمع جامعة الدول العربية لمناقشة "خطورة الوضع الإنساني في غزة"، هكذا تناقلت وسائل الإعلام الرسمية الخبر مستبشرة ومهللة. المؤسسة التي استظل بها العرب منذ الأربعينيات من القرن الماضي، ولم تظلهم يومًا، بل أحرقت شمسها جباه الكثير منهم، وأبانت ضعفهم وعجزهم عن حجب حرارتها، وسريعًا ما تحولت إلى منارة للتندر والأمل الزائف.
أخيرا استفاقت لتعلن من فورها عن اجتماع آخر وبيان آخر، ووعود أخرى ستلقي في الهواء وتبث عبر الشاشات الفضائيات العربية الرسمية، كفقاعات الصابون التي سريعا ما تنفجر دون أثر. لقد انتهى عهد السذاجة والسُذج، فلن نكون كذلك ولن تجدوا أحدًا من أولئك، فالتاريخ يحدثنا بأن هذه الجامعة، التي اختارت اسم "العرب"، غالبًا ما كانت أبعد ما تكون عن تمثيل نبض الشعوب العربية، وأقرب إلى خشبة مسرح هزلي، تُعرض عليه مسرحيات مكررة، يعرف الجمهور نهايتها قبل أن تبدأ.
وحتى نشير إلى بعض تلك النصوص المسرحية، لن نكلف أنفسنا بالذهاب بعيدا، وسنبقى في نفس الأحداث، ونعود معكم بذاكرتنا قليلًا إلى مواقف الجامعة المماثلة التي تُظهر بوضوح مدى "فعاليتها" في التعاطي مع قضايا الأمة، ففي عام 2014م، وعندما كانت غزة تُدمَّر تحت وابل القصف، عقدت الجامعة اجتماعات طارئة، وأصدرت على إثرها بيانات "شجب واستنكار" أصبحت "كليشيهات" مملة وممجوجة ومادة للتندر حتى للأطفال. فحين كان الحصار على غزة يشتد والقتل يتكرر، تكتفي الجامعة العربية بـ"التعبير عن القلق" و"الدعوة إلى ضبط النفس". هكذا تطلب الجامعة العربية من يُقتل ويُشرَّد، بضبط النفس، شأنه شأن من يضغط على الزناد! ثم في عام 2018م، وبعد أربعة أعوام من المطالبة بضبط النفس، وحين لم يضبط العدو أنفاسه ولا آلات دماره، انتفض أبناء الشعب الفلسطيني المقاوم، في مسيرات العودة، فما كان من تلك الجامعة إلا أن تكرر ذات السيناريوهات المعتادة على إخراجها، مع وعد هذه المرة بـ"متابعة الوضع عن كثب"!! هكذا هي هذه المرة، فقد اكتفت بفعل المتابعة، وكأن "المتابعة" ستوقف دمارًا أو قتلًا استمراه المحتل وأصبح من هواياته المفضلة، أو أنها ستُشفي جرحًا أو تُعيد طفلًا إلى أمه، أو أسرة شردت إلى منزلها المُدمّر ولم يبق منه سوى الركام ولُعب أطفاله الممزقة والمتناثرة على ركامه.
واليوم وبعد أكثر من عام ونصف من الإبادة الجماعية في غزة، حيث تجاوز عدد الشهداء عشرات الآلاف، والمصابون والمشردون يُحصون بالملايين، وبعد أن تحول القطاع إلى أنقاض تروي قصص الذل والهوان، تأتي الجامعة لتُخبرنا أنها ستبحث "الوضع الخطير". وكأن رجالاتها قد اكتشفوا خطورة الوضع الآن فقط!!
كل تحركات وتجمعات وقرارات ما يسمى بالجامعة العربية تدعوا إلى السخرية التي هي تعبير عن مرارة شعوبٍ سئمت من هذا العجز المُمنهج، حوّل الجامعة العربية بكل أسف إلى ما يشبه من نادٍ اجتماعي للدبلوماسيين العرب، يتبادلون فيه العبارات المعلبة، ويصيغون قراراتٍ أضعف من أن توصف، ويستضيفون أحيانًا بعض أقرانهم من الدول الأخرى ليشهدوهم على ضعفهم وعدم قدرتهم على تقديم أكثر مما يقدمونه ويجتهدون لتقديمه. قراراتها التي ستخرج لا يشك أحد في أنها لن تكون سوى كسابقاتها، دعواتٍ للتهدئة، ومطالباتٍ بالتحقيق وتأكيداتٍ على "الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني".
وحين يرفع أحدنا صوته ليسأل: أين هو هذا الوقوف الذي تدّعيه الجامعة العربية إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقوقه وكفاحه من أجلها؟ لا يجد لذلك إجابة سوى صمتها عن التطبيع، بل ودعواتها للذهاب إليه، ومباركتها لمن أقدم عليه، ثم عدم القدرة على فرض عقوبة واحدة على الكيان الصهيوني، وإن حصل وأقدمت على فعل يحسب لها بأنه جبّار، فيتمثل في الاكتفاء بإرسال بضع شاحنات مساعدات تُعرقلها من ثم إسرائيل على الحدود ويعود أغلبها خائبًا.
ما يُثير السخرية أكثر هو أن الجامعة تُصر على عقد هذه الاجتماعات كأنها ستُغير شيئًا. إنها كمن يُعيد كتابة نفس النصوص الفاشلة مع تغيير أسماء الشخصيات وبعض الأدوار فقط.
لقد ملّت الشعوب العربية، ولم تعد تصدق وعود جامعتها، ويئست من قدرتها على فعل أكثر من ذلك، وباتت تطالب اليوم بإلغاء هذه المؤسسة التي لم تكن يومًا سوى عبئًا ثقيلًا على شعوبها، وساحة للتندر والسخرية، الشعوب التي ترى أطفال غزة يُقتلون على شاشات التلفاز، بينما وزراء الخارجية يتبادلون المصافحات والابتسامات في قاعات الجامعة المكيفة.
كالعادة لن ينتظر أحد ولا يفكر أحد في ذلك الانتظار من جامعة الدول العربية أن تُنقذ غزة، لأنها لم تُنقذ يومًا قضيةً عربية. غزة التي تقاوم بصمودٍ أسطوري لا تحتاج إلى بيانات الجامعة، إن فقدت قدرتها وعجزت عن فعل غير ذلك، غزة في حاجة إلى فعلٍ حقيقي، إلى وحدة موقفٍ عربي قوي يُعيد للأمة كرامتها، وحتى ذلك الحين "إن لم يقضِ الله أمرًا كان مفعولا"، سنظل نسمع صوت الجامعة يتردد في قاعاتها الفارغة من الإرادة: "نشجب، نستنكر، ونتابع الوضع عن كثب". وغزة كعادتها ستواصل صمودها وتُصعّد من مقاومتها رغم كل ذلك الخذلان.