أحمد بن محمد العامري
ahmedalameri@live.com
في زمن تتكدس فيه موائد الأثرياء بألوان الطعام، وتتنافس فيه العواصم على استعراض مظاهر الترف، تختنق غزة جوعًا، شريط صغير من الأرض يُحاصر بين أنياب القتل والتجويع، لا تموت غزة فقط بالقنابل، بل تموت اليوم ببطء، بمنع رغيف الخبز عن أفواه أطفالها، وبمنع الدواء عن جرحاها، وبخنق الأمل من صدور أمهاتها.
تُغلق معابر غزة بإحكام، ويُمنع عنها الغذاء، وتُمنع عنها الأنفاس، بينما تُفتح موانئ الاحتلال الإسرائيلي على مصراعيها لتتلقف شحنات السلاح والذخيرة من أمريكا وبعض الدول الغربية، تُكدّس مخازن الموت ليزداد القتل وتشتد قبضة الحصار وتتعاظم معاناة المحاصرين.
منذ أكتوبر 2023، لم يكن الرصاص وحده السلاح، بل بدأ حصار يطحن أرواح الناس قبل أجسادهم، حرب جديدة عنوانها الجوع.
المخابز توقفت عن العمل، المزارع سُويت بالأرض، والمواشي تم قنصها في الحقول، مستودعات الغذاء أصبحت أهدافًا مشروعة للغارات، الآباء عاجزون عن إطعام أطفالهم، والأمهات يفتشن في النفايات عن كسرة تسد الرمق، الجوع في غزة ليس قدرًا، بل قرار متعمد، سياسة مدروسة بدم بارد.
هذا العالم، الذي ينتج من الغذاء ما يكفي لإطعام البشر مرتين، قرر أن يغلق الأبواب أمام غزة، العالم يرى ولا يتحرك، المنظمات الإنسانية تتحدث عن القلق ثم تمضي إلى مكاتبها المكيفة، مؤتمرات القمم تتبادل كلمات الشجب، بينما الأطفال في غزة يموتون بلا صوت.
الأشد مرارة من الصمت الدولي هو خذلان العرب والمسلمين، العواصم العربية مزدحمة بالمهرجانات، شاشات التلفاز مليئة بالإعلانات والفعاليات، ملايين الدولارات تُنفق، بينما غزة تجوع، في غزة يبحث الطفل عن ورقة شجرة ليأكلها، بينما في بعض العواصم العربية، تُقام حفلات العشاء الفاخر، وتُعقد صفقات التطبيع، وتُبرم الاتفاقيات الاقتصادية مع الاحتلال، كأن الدم الفلسطيني صار عملة رخيصة لا قيمة لها.
في المقابل، تسير سفن السلاح إلى إسرائيل دون عائق. طائرات الشحن العسكري حتى من بعض الدول العربية للأسف، تحط كل يوم في مطارات الاحتلال، بينما شاحنات الغذاء تتكدس عند المعابر المغلقة إلى غزة، لا أحد يوقف شحنات القتل، أما المساعدات الإنسانية فتُمنع وتُحاصر كأن العالم اتفق على خنق غزة بقرار صهيوني حتى النهاية.
هذه ليست مجاعة طبيعية، بل جريمة موصوفة تُنفذ على مرأى العالم، لا تتحدثوا عن الإنسانية وأنتم ترون شعبًا كاملًا يُدفن جوعًا، ولا ترفعوا شعارات العدالة وأنتم تفتحون موانئ الموت وتغلقون أبواب الحياة، لو كان هذا الحصار وهذه المجاعة تحدث في أوكرانيا، لرأينا عالمًا مختلفًا، ضميرًا مستنفرًا وغضبًا لا يهدأ، أما غزة، فدمها مستباح، وجوعها مُرحَّبٌ به، كأنه عقوبة جماعية مقبولة.
غزة لا تحتاج خطبًا ولا كلمات تضامن جوفاء، غزة تحتاج إلى فتح المعابر الآن، تحتاج إلى شريان حياة لا خطابات قمة، تحتاج إلى وقف شحنات القتل لا مزيدًا من مؤتمرات القلق، كل لحظة صمت تعني مزيدًا من الأطفال الذين يسقطون جوعًا، مزيدًا من الأمهات اللواتي يحتضنَّ صغارهن بلا طعام ولا دواء، ولا حول لهن إلا البكاء.
إن ما يحدث في غزة اليوم ليس حربًا عسكرية فقط، بل هو انهيار أخلاقي عالمي. العالم يسقط في امتحان الضمير، والعرب يسقطون في امتحان الكرامة والمسلمون يسقطون في امتحان الأخوة. والنتيجة طفل يموت من الجوع كل بضع دقائق ولا أحد يكترث.
أطفال غزة لا يموتون، لأن الطعام غير موجود، بل لأن القرار الصهيوني هو أن يبقوا جائعين، ولأن القرار العربي هو أن يُتركوا وحدهم.
ستبقى غزة صامدة كما اعتادت، لكنها ليست وحدها، كل من يصمت اليوم، كل من يساوم على دمها، يزرع بذور الانهيار الأخلاقي لهذا العالم. الجوع الذي يفتك بغزة اليوم هو لعنة لن تتوقف عند حدودها، ومن يعتاد رؤية الضحايا يموتون بصمت، سيفاجأ حين يكون هو الضحية القادمة.
"الله غالب".