بكين تعرف كيف تدير الوقت.. "الرؤية" تخوض تجارب فريدة للمواصلات في مدينة الـ22 مليون نسمة

الرؤية- فيصل السعدي

تستيقظ كل صباح في بكين، ولديك جدول مزدحم بالأعمال والمشاوير، وتحاول أن تسابق الزمن لتنتهي من كل هذه الأعمال في مدينة أشبه بعالم لا متناهي، حيث يستيقظ مثلك أكثر من 22 مليون نسمة في واحدة من أكثر العواصم ازدحامًا في العالم.

تتوقع أن تجد الفوضى المرورية تعم المكان، لكن المفاجأة! تجد مدينة تنبض بحياة منتظمة وبنسق من التوازن، وذلك لما تمتلكه من نظام مواصلات متكامل يجعل التنقل تجربة فريدة من نوعها، وذات طابع مميز، فمن يعيش التجربة يجد السلاسة والأريحية، حتى في أوج ساعات الذروة لا يعيش أحد تحت قلق وتوتر ان يتأخر ولو لثانية عن مواعيده.

ومن اللحظة الأولى، أدركت أن الدراجات الهوائية أسلوب حياة بيئي تتعدى كونها مجرد وسيلة نقل اعتيادية مما يجعل منها ثقافة متجذرة ورمز للتنقل المستدام، ستجد المديرين التنفيذيين والمسؤولين الحكوميين بكامل أناقتهم المعتادة يتنقلون على دراجاتهم بكل متعة وأريحية، طرقات مخصصة بنية تحتية متقدمة وجيوش من الدراجات المركونة على جنبات الطرق وعند بوابات المترو وأمام المجمعات السكنية، ولضمان توزيع "الدرجات التشاركية" بحسب الكثافة السكانية يتم تخصيص لون محدد  للدراجة: أزرق أصفر أخضر وربطها مع المنصات الخاصة بها على أنظمة الملاحة "بايدو" و"GPS" وذلك لتحقيق إدارة دقيقة لمواقع الدراجات وكثافة توزيعها، وللحد مشكلات الوقوف العشوائي، يتم استخدام البيانات الضخمة لتحليل حركة السكان وتوزيع الدراجات بدقة خلال ساعات الذروة. ومع التطبيقات الذكية مثل "ويشات" و"علي باي"، يمكنك استعمال دراجة بضغطة زر، مما يضيف بعدًا تقنيًا لوسيلة مواصلات تقليدية.

65c92c94-2934-409c-a75e-69e689b77b36.jpg
 

مترو الأنفاق.. مدينة تحت الأرض

وبمجرد أن تقطع الطريق نحو مكان بعينه تعيش تجربة تعاقب الفصول الأربعة في اليوم نفسه ولربما خلال 6 ساعات فقط منه وكل ذلك في العاصمة بكين، تلك العاصمة الاستثنائية بمختلف التجارب. وفي بعض الفترات يطلق على تلك الحالة من الطقس ما يسمى بــ"وجه الطفل" وهي دليل على مزاجه المتقلب بين الحين والآخر، فإذا كان الجو غير مناسب أو المسافة طويلة، فإن مترو الأنفاق هو الحل المثالي بالنسبة للجميع.

ويعتبر هذا النظام بمثابة شريان الحياة لبكين، بشبكة ضخمة ممتدة على طول بكين ومواقعها المختلفة وتضاريسها المتباينة دون غيابها عن أي منطقة، فهي شبكة لا مثيل لها على الإطلاق، فالمحطات متعددة الطوابق تصل إلى أعماق الأرض بأربعة طوابق، وقد يفوق ذلك ليصل إلى 6 طوابق، وفي بكين يوجد أكثر من 414 محطة مما يتيح التنقل بسرعة وسهولة بين مختلف الأحياء، وحتى في أوقات الذروة، يبقى المترو وسيلة نقل فعالة، تثير إعجاب كل من يزور بكين للمرة الأولى.. أفواج من الصينيين في محطات المترو في مشهد لا تراه حتى في الشوارع والأسواق الأكثر كثافتًا في المدينة.

اكتشفت عالم آخر تحت أقدامي، حيث تبدأ الرحلة عبر آلة ذكية تحدد فيها مسار وجهتك وتستخرج لك بطاقة الدخول، لتجد نفسك تغوص في أعماق بكين، حيث تمتد شبكة التنقل إلى أكثر من أربعة طوابق تحت الأرض، وهناك، ستشهد نظامًا فائق التنظيم، سلالم كهربائية متحركة بلا توقف، ولوحات إرشادية واضحة تقودك. ستشعر للحظة وكأنك في قلب أحد المطارات العملاقة، وليس مجرد محطة مترو.. تجربة تجمع بين الحداثة والإتقان وقدرة الصين على أن تكون في تقدم مستمر من الناحية التقنية والتكنولوجية.

المترو.png
 

التكنولوجيا في خدمة النقل

ولأنني أتحدث عن العاصمة بكين، فيمكنك فيها أن تعيش تجربة دمج النقل الحديث والتقليدي بطريقة مدهشة، الأمر الذي كنت أتوقف عنده كثيرا لأتساءل: ما هي الوسيلة الأنسب لوجهتي وهل أنا بالأساس أحتاج لتلك الحيرة في ظل هذه التقدم الملحوظ؟ وجوابا على تلك الأسئلة فالمدينة تقدمها لك بكل سهولة من خلال تطبيقات الهواتف الذكية، حيث يمكنك طلب سيارة أجرة تناسب احتياجاتك بدقة، سواء كنت تبحث عن الرفاهية أو سيارة ذاتية القيادة، بحيث تتم جميع العمليات بسلاسة، من الحجز إلى الدفع، مما يضمن لك تجربة نقل مريحة ومبتكرة، لا تحتاج فيها إلى الانتظار طويلاً، فالاختيار متاح لك بين سيارات الأجرة الأقرب إليك أو حتى إمكانية تقديم ملاحظات واستبدال السيارة في نفس اللحظة، سواء كنت في الشوارع الواسعة أو الأزقة الضيقة، ستأتيك سيارة الأجرة أينما كنت، مما يجعل وصولك لوجهتك في الموعد، فلا أحد يتأخر في الصين لأن بكين تدير الوقت بوسائل النقل المتنوعة.

الحافلات راحة عامة

وعندما أتحدث عن التنقل لا يمكنني أن أتجاهل أيضا الحافلات، ففي شوارع بكين النابضة بالحياة، تنتشر الحافلات العامة في كل زاوية، وتعمل بلا انقطاع لتربط ملايين الركاب بشبكة نقل متقنة ومجهزة بأحدث التقنيات وأفضل الخدمات، حيث تعتبر هذه الحافلات الخيار الأمثل للطلاب والمهنيين، فهي مجهزة بخدمة الواي فاي المجانية متيحة لك بذلك فرصة الاستمتاع وأنت تشاهد معالم المدينة ومبانيها العالية.

وحتى نهاية عام 2023، تدير مجموعة بكين للنقل العام 1285 خط حافلات، تمتد على طول 29,700 كيلومتر، بأسطول ضخم يضم أكثر من 400 آلاف حافلة. هذه الحافلات ليست فقط العمود الفقري للتنقل البري في بكين، بل أيضًا وجهة خضراء نحو المستقبل، حيث بلغ عدد حافلات الطاقة النظيفة 16,832، مما يشكل 94.7% من إجمالي الأسطول. 

ولتعزيز التحول إلى الطاقة المستدامة، تم تجهيز المدينة بـ251 محطة شحن خاصة بالحافلات، تحتوي على 1727 عمود شحن، مما يجعل بكين نموذجًا عالميًا في النقل الحضري الصديق للبيئة، ومع وجود 2.087 مليار راكب سنويًا، تُثبت حافلات بكين أنها أكثر من مجرد وسيلة نقل، إنها تجربة حضرية متكاملة تجمع بين الراحة والاستدامة.

82cb7238-b079-4301-9d44-e48e33699495.jpg
 

"الرصاصة".. تجربة خارج الزمن

لا يمكننا الحديث عن تجربة النقل في بكين دون التوقف عند أعجوبة السكك الحديدية فائقة السرعة، التي أحدثت ثورة في مفاهيم السفر.. تخيل معي أنك تنطلق بين المدن الصينية بسرعة تصل إلى 350 كيلومترًا في الساعة، بينما تجلس في مقعد مريح، محاطًا بمقصورات معزولة تمامًا عن ضجيج العالم الخارجي. إنها تجربة لا تشوبها شائبة، فبفضل تقنيات متقدمة، تجعل من قطارات "الرصاصة" وسيلة النقل الأكثر راحة وفخامة؛ فلا ميلان ولا مطبات هوائية تربك المسافرين.. رحلات استثنائية عشتها بين مقاطعات ومدن الصين تمنحك الفرصة للتأمل في مناظر خلابة تتسارع أمام عينيك من نافذة القطار تتجلى متانة الاقتصاد الصيني وتكامله المدهش وأنت تشاهد توربينات الرياح تتناثر بين الجبال الخضراء وكأنك تسافر عبر الزمن إلى المستقبل.

وشبكة السكك الحديدية الصينية ليست فقط الأسرع، بل هي الأكثر ازدحامًا وحيوية في العالم، حيث تنقل أكثر من 10 ملايين راكب يوميًا، وهذه الشبكة الهائلة تغطي 99% من المدن التي يزيد عدد سكانها عن 200 ألف نسمة، بينما تصل القطارات فائقة السرعة إلى 96% من المدن التي يتجاوز عدد سكانها 500 ألف نسمة  وأكثر من 8700 قطار من طراز "فوشينغ" ينطلق يوميًا عبر أرجاء الصين، ليجسد كفاءة مذهلة ونبضًا مستمرًا يعكس روح الابتكار والتقدم في هذا البلد العملاق.

FOREIGN202106280937000064710684181 (2).jpg
 

في آخر محطاتي قبل العودة إلى سلطنة عمان، أغلقت أبواب منظومة مواصلات بكين لتقودني إلى تحفة معمارية فريدة: مطار داشينغ الدولي والذي يُعد ثاني أكبر مراكز الطيران ازدحاماً في العالم. تم افتتاح المطار في عام 2019 ليخفف الضغط عن مطار بكين الدولي، بواصفات حديثة جعلت منه ميناء جوي مهم وأيقونة عالمية تمزج بين الإبداع الهندسي والتكنولوجيا المتقدمة.

وبتصميم مستوحى من نجم البحر، يمتد المطار على مساحة هائلة تبلغ 700 ألف متر مربع، ليصبح واحدًا من أكبر المطارات في العالم. يزدان بسقف أبيض مبهر وممرات واسعة تسهل حركة المسافرين، حيث تم تصميمه لتقليل وقت المشي بين البوابات، بمعدل 8 دقائق من المشي، بين نقاط التفتيش والبوابات. يحتوي "نجمة البحر" على 4 مدرجات رئيسية مع خطط مستقبلية للتوسع إلى 7 مدرجات، مما يرفع قدرته الاستيعابية من مليون مسافر سنويًا إلى أكثر من 100 مليون مسافر في المستقبل.

BEIIEEA.jpg
 

يقع هذا الصرح المدهش، في منطقة داشينغ على بُعد حوالي 46 كيلومترًا جنوب وسط بكين، ولتسهيل الوصول إليه، تم ربطه بشبكة نقل متطورة تشمل قطارًا عالي السرعة يصل المسافرين إلى قلب العاصمة خلال 20 دقيقة، بالإضافة إلى مترو الأنفاق، ليبقى هذا المطار نموذجًا للسرعة والكفاءة في عالم الطيران.

وبحسب وكالة "شينخوا الصينية" شهد مطار بكين داشينغ الدولي تجاوز أعداد المسافرين الأجانب العابرين المليون مسافر خلال عام 2024، حيث يوفر المطار حاليا رحلات إلى 43 وجهة دولية وإقليمية تغطي 25 دولة ومنطقة في جميع أنحاء أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.

وفي نهاية رحلتي التي استمرت لمدة 4 أشهر في بكين، أدركت أن هذه المدينة ليست مجرد عاصمة، بل هي نموذج عالمي للتنقل الذكي والمستدام. بدءا من الدراجات إلى القطارات، ومن التكنولوجيا إلى التخطيط الحضري، أظهرت بكين كيف يمكن أن تكون وسائل النقل جزءًا لا يتجزأ من تحسين جودة الحياة. مدينة تتحدى الفوضى، وتُثبت أن الابتكار والتخطيط يمكن أن يصنعان فارقًا في حياة الملايين، وأنها من تدير الوقت لسكانها لضمان حياة مستقرة واقتصاد متقدم.

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة