د. صالح بن ناصر القاسمي
الإنسان، ذلك الكائن البشري الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وفي أحسن الصور، مركب عجيب بقدرته سبحانه وتعالى، يحمل العديد من الأجهزة التي تعمل منسجمة بطريقة لا يمكن لبشر أن يتصورها. ومهما اخترع الإنسان من آلات، فإنها تظل عاجزة أمام خلق الله الذي أبدع في الخلق، والإبداع بمعناه العام هو إيجاد الشيء من العدم، فسبحان الله الخالق.
وإذا تأملت في الفارق الجوهري بين ذاكرة الإنسان وذاكرة الآلة، وجدت أن الأولى تختزن المشاعر والتجارب والأصوات والروائح، لا مجرد بيانات صماء. إنها ليست ذاكرة ميكانيكية، بل كيان حيّ يتفاعل مع كل لحظة ويُعيد بناءها بوجدانها لا بأرقامها.
ومن الأجهزة التي تميز بها الإنسان ذلك الجهاز البديع الذي يعمل على تخزين البيانات والمعلومات والصور والأشكال، بمساحة تخزين مفتوحة إلى ما لا نهاية. ليس هذا فقط، بل القدرة على استرجاع تلك البيانات والمعلومات في أي لحظة يحتاج إليها الإنسان.
يبدأ الإنسان التخزين في ذاكرته منذ أن يبدأ عملية الإدراك في الشهور الأولى من ولادته، فيبدأ بتخزين صور من حوله، ويتدرج بعد ذلك بحسب مراحل العمر.
ويلعب الوالدان دورا محوريا في تشكيل ذاكرة الطفل، من خلال القصص التي تروى، والقيم التي تزرع، والمواقف التي تتكرر. فالطفل لا ينسى نبرة الصوت، ولا أول لحظات التعلم، وهذا ما يجعل للذاكرة الأسرية بعدا عاطفيا مؤثرا.
ويظل هذا المخزون الوجداني والمعرفي يتشكل وفق البيئة، والتجارب، واللغة، والاحتكاك بالآخرين، مما يجعل لكل فرد بصمة معرفية خاصة به.
ومن المؤلم أن فقدان هذه الذاكرة بفعل أمراض كالزهايمر أو التدهور العقلي، يعد من أشد ما يواجه الإنسان، لأنه يعني ضياع هويته وتاريخه الشخصي، فيصبح جسدا يعيش بلا ماض ولا هوية، وكأن الروح انسحبت تاركة الجسد يتيه.
وعملية التخزين تلك تتم بواسطة أدوات مزود بها، مثل السمع والبصر والكتابة وغيرها، قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) [البلد: 8].
تلك الذاكرة الإنسانية العجيبة عبارة عن مكتبة ربانية مستودعة في عقل ذلك المخلوق البشري العجيب، وحينما تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ كتابه العزيز، القرآن الكريم، جعل أحد تلك الأدوات هو صدر الإنسان "ذاكرته"، قال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) [العنكبوت: 49].
وقد يتميز الإنسان العربي -الذي تنزل القرآن الكريم بلغته- بقدرته على الحفظ، فأغلب العرب لم يكونوا ملمين بالكتابة، لذلك اعتمدوا على الحفظ والذاكرة في توثيق الأحداث، وبرعوا في إلقاء الشعر، وقدرتهم على حفظ مئات الأبيات الشعرية، فكان العقل العربي مهيأ لحفظ كتاب الله تعالى بكل يسر وسهولة.
بل إن البيئة الشفهية ساعدت على صقل ملكة الحفظ لديهم، فجعلت من الأسواق الشعرية والأمثال الشعبية أدوات تواصل، وحفظن ثقافيا بامتياز.
وحتى مع التطور الحاصل الآن، واختراع الطباعة وأجهزة تخزين البيانات، حافظ الإنسان المسلم على حفظ كتاب الله تعالى باعتباره عقيدة إيمانية، فسبحان من تكفل بحفظ كتابه، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
وليس حفظ القرآن مجرد تمرين ذهني، بل هو تزكية للنفس، وتثبيت للقلوب، وامتثال لقوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، فهو ذكر يحيا به القلب والعقل، لا يخزن فقط في الذاكرة، بل يتفاعل مع الحياة.
إن الإنسان، باعتباره فردا ضمن مجموعة من الأفراد شكلوا مجتمعا معينا، فهو ذاكرته المستقلة تختلف بطبيعة الحال عن ذاكرة غيره، وإن اشتركوا في تخزين بيانات ومعلومات ومعارف متشابهة، إلا أن مسألة الاختلاف في النوعية والماهية والكمية تبقى فارقة.
إن الأوطان والحضارات لها ذاكرة من نوع آخر، أشمل وأدق وأثمن من ذاكرة الأفراد، إنها ذاكرة زاخرة بكل ما أنتجته الأفكار والعقول والأيدي على مدار تعاقب السنوات، وهو تاريخها الثقافي الذي يشمل العادات والتقاليد والفنون والآداب وأنماط المعيشة، هذا بجانب ما ينتجه الإنسان من آثار وعمران تبقى شاهدة على عظمة ذلك الإنسان.
ومن ذاكرة الشعوب ما يعرف بالذاكرة الشعبية، التي تتجلى في الأمثال والحكايات والمرويات الشفوية، والتي تنتقل جيلا بعد جيل، وتحمل في طياتها حكمة الجماعة وتجاربها ومعاييرها الأخلاقية، حتى وإن لم تدون في كتب.
الذاكرة التاريخية هي مصدر الإلهام للأجيال القادمة، وهي ضمان استمرارية التواجد البشري النوعي، على اعتبار أن الناس أجناس، هكذا خلقهم الله ليتعارفوا فيما بينهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات: 13].
لذلك تهتم الدول بالأرشيف الوطني الذي يعد من أهم الثروات، لما يحتويه من كنوز معرفية، ويكون بمثابة الشريان للدول، فكلما كان هذا الأرشيف قديما دل على مكانة الدولة التاريخية.
ولا تقتصر أهمية الأرشيف على التوثيق فحسب، بل يتعداها إلى كونه مصدرا للسياسات المستقبلية المستندة إلى التجارب السابقة، ودليلا على استمرارية الهوية الوطنية.
ولهذا نشهد اليوم حرص الدول على رقمنة الأرشيف، وتأسيس مراكز للدراسات التاريخية، وتشجيع التوثيق الشفهي والمكتوب، لأن الأمم التي تعي ماضيها، وتفهم مسيرتها، أقدر على استشراف مستقبلها بثقة واتزان.
وفي المقابل، تكون ذاكرة الأفراد، الممثلة لذاكرة الدول، مليئة بالأحداث التاريخية، وبالتقاليد والقيم والفنون، تشعرك بأن المجتمع يعيش حياة تنبض بعبق التاريخ، لكل الشخصيات التي أدت دورا ما خدمة لذلك الوطن. ونستطيع القول بأن الذاكرة التاريخية للدول هي البوصلة الحقيقية لمسار التطوير والتقدم، والملهمة لاتخاذ القرارات المصيرية متى ما تطلب الأمر ذلك.
إذ تُعد الذاكرة التاريخية بمثابة المرجع الأعلى عند المنعطفات، حين تتداخل الأزمات وتتزاحم الخيارات، فتمنح صانع القرار بعدا تاريخيا لا غنى عنه.
ومهما تعاقبت الأزمنة وتبدلت الوسائل، تبقى الذاكرة هي الحافظة التي لا تقدر بثمن، تحفظ حكاية الإنسان على هذه الأرض، وتسردها للأجيال القادمة بلغتها الخاصة، بلغات الصورة، والدمعة، والصوت، والكلمة، وحتى الصمت.
وهكذا تبقى الذاكرة، بكل أبعادها ومستوياتها، هي الوعاء الذي تحفظ فيه هوية الإنسان وهوية الأوطان. فبقدر ما يحرص الإنسان على صيانة ذاكرته وتغذيتها بالمعرفة والإيمان والوعي، وبقدر ما تهتم الأمم بتوثيق تاريخها وتدوين منجزاتها، يكون البقاء الحقيقي لأثر الإنسان، والفخر المستمر لأجيال المستقبل. فالذاكرة ليست مجرد حافظة لما مضى، بل هي البوصلة التي تعين على حسن الفهم، ودقة القرار، وصناعة مستقبل لا ينسلخ عن جذوره. وكل أمة تنسى ذاكرتها، إنما تحكم على نفسها بالضياع، والبدء من الصفر في كل مرة. فليكن الحفظ وعاء الحكمة، والذاكرة مرآة الطريق.