ريتّا دار **
في زحمة الضّحكات وهمسات الجمهور، وقف رجلٌ بهدوءٍ على خشبة المسرح.. كان يتفنّن في ألعاب الخِفّة، يلوّح بيديه هنا وهناك، تُجذب العيون إلى حركاته السّريعة، كان ماهرًا بخفّة يده، يُسقط الورقة من خلف أذنك ويُخرج الأرنب من قبّعته الفارغة، لكنّ السّحر الحقيقيّ كان في عيني مساعدته الجميلة.
بابتسامتها الهادئة، ونظراتها النّاعسة، كانت تصرف أنظار الجمهور في اللحظة المناسبة، ليُكمل هو خُدعته في الظلّ، بهدوءٍ واحترافٍ، كأنّها رقصةٌ حفظا خطواتها دون كلام. لم تكن تملك عصًا سحريّة لكن تلك الجميلة كانت سبب كلّ التّصفيق.
هما معًا.. وهمٌ عظيمٌ صدّقه الجميع.
هذه اللعبة الصّغيرة ليست مجرّد تسلية؛ بل درس في كيف يمكن أن تخدع العين والعقل معًا، كيف يمكن توجيه الانتباه إلى ما يريد السّاحر أن يُرى، بينما يخفي ما يريده أن يظلّ مجهولًا. فلم يكن السّحر في ما يظهر؛ بل في ما يُخفى عمدًا.
عندما ننتقل من خشبة المسرح إلى شاشات الأخبار ووسائل التّواصل، نجد تشابهًا غريبًا. كثيرًا ما يتحوّل الإعلام إلى عرض مُشابه، حيث يتمّ توجيه عيوننا وأفكارنا نحو مواضيع معيّنة، تشغلنا وتشدّ انتباهنا، بينما تغيب قصص أخرى، أكثر أهميّة، تُدار من الكواليس. يشغلوننا بالسّطح، يُلمّعون الزّائف، ويُخفون الجوهريّ. يرسمون لنا صورةً ناقصةً، ويدعوننا للتّصفيق، ونحن لا ندري أنّنا شاهدنا نصف الحكاية فقط.
أجل، إنّه الإعلام السّاحر ووهم التّصفيق للفراغ.
حين تُعرض كارثةٌ إنسانيةٌ في نشرة أخبارٍ، تُفتتح اللقطات بصور المساعدات، وتُختتم بابتسامات الأطفال، بينما لا يُذكر من أشعل الحرب، أو من يُعرقل وصول الإغاثة. التّركيز كلّه على اليد اللامعة: "كيف سنساعد المساكين"، أمّا اليد الخفيّة هي الّتي قرّرت مصيرهم.
تمامًا كما في عرض السّاحر، تُبهرنا التّفاصيل الصغيرة، بينما تمرّ الحقيقة الكبيرة أمام أعيننا دون أن نراها.
أو مثلًا عندما تُبثّ تقارير عن تحسينات في الوضع الاقتصادي، يُعرض افتتاح مركز تسوّق جديد، أو تصريح مُطمئنٍ لمسؤول يقصّ شريطًا ما، ويبتسم أمام الكاميرا مُطلقا الوعود، بينما لا تُذكر الأسعار الّتي زادت، أو البطالة الّتي تنخر البيوت بصمت.
يُركَّز الضّوء على طلاء الجدران الجديد، ويُترك التشقّق في الأساس بلا حديث.
تمامًا كما في عروض السّحر، يُسلَّط الضوء على القبّعة الفارغة، بينما الحقيقة تُخفى في كُمّ السّترة.
في هذا الزّخم كلّه، يضيع صوت الحقيقة، وتصبح الصّورة مشوّشة. لذلك علينا أن نتوقّف للحظةٍ قبل أن نصدّق كلّ ما يُعرض أمامنا.
أن نطرح الأسئلة البسيطة: ماذا؟ ولماذا؟ ومن المستفيد؟
الإعلام ليس مرآة؛ بل عدسة، ومن يملكها يُحدّد زاوية الرّؤية. ودورنا أن نبحث عن الصّورة الكاملة، أن نستمع لأصوات من لا صوت لهم، وأن نتعلّم كيف نرى ما وراء اللقطة، لا ما بداخلها فقط. الصّدق لا يأتي جاهزًا في العناوين؛ بل نكتشفه حين نختار أن نفكّر، نرى ما وراء اليد، وننتبه لما لا يُقال.
** صحفية سورية