أنيسة الهوتية
كانت القرية تمتدّ حولها كمتاهة متحركة من الطين.
طرقاتها متشابكة، صامتة، بلا وجوه مألوفة، بلا خريطة.
خطواتها كانت تسأل الأرض: أين أذهب؟
لكن الأرض لم تُجب.
كانت تائهة...
وخائفة من ألا يُفتقد ضياعها.
ظلت تمشي حتى لمحت حداثة مختلفة، وضوء ناعم.
مبنى زجاجي، عالٍ، نقيّ، لا يشبه التراب ولا الخوف.
درج طويل يقود إلى أعلى...
ارتجفت.
تقدّمت.
كانت تصعد ببطء، تحمل في قلبها شيئًا بين الترقّب والقلق، بين الرجاء والخجل،
لكن هناك شيء فيها كان يؤمن أن في الصعود أمان.
وعندما وصلت، رأته.
مثلها الأعلى، من تعيشه في حياتها اليومية...
لم يكن حبيبًا، لكن وجوده مبعث سعادة.
كان مشغولا، داخل الغرفة الزجاجية، يفتّش أوراقًا فوق طاولة وكأنه مكتبها!
تجمّد قلبها ثم دفأ، كأنّ حضوره نهاية الخوف وبداية الأمان.
ابتسمت، ورفعت يدها تناديه.
لكن صوتها لم يصل إليه.
الغرفة صامتة. الزجاج عازل، لا يسمح بشيء أن يمر.
وضعت كفها على الزجاج،
تحسسته ببطء، كأنها تلمس جدارًا بين قلبين.
فجأة... شعرت بمقبض.
لفّت أصابعها حوله، فتحته.
واختفى الزجاج.
ركضت نحوه بفرحة طفلة في يوم العيد،
كادت أن تحتضنه، وقلبها يقول له: "أنا هنا."
لكنه سبقها بنظرة أشبه برصاصة إعدام.
وقال بصوت خافت:
"لماذا كسرتِ الزجاج؟"
شهقت من الألم أكثر من المفاجأة.
هزّت رأسها، بعينين تنكران:
"لا... لم أفعل. أنا فقط... دخلت".
لم يصدقها، وأدار وجهه عنها.
وكأن وجودها صار عبئًا.
انكمشت.
وخرجت من الغرفة.
نزلت الدرج، والخيبة على كتفيها أثقل من الهواء الذي كاد يخنق قلبها.
وفجأة...
وادٍ عظيم، جارف، كأنه أُتى غاضبا ليأخذ ما تبقّى معها من يقين.
اجتاح المكان، اقتلع كل شيء: القرية، الطريق، الذاكرة، حتى صوتها الداخلي.
كل شيء...
إلا الغرفة الزجاجية،
وهو.
أما هي... فبقيت.
واقفة في مكانها. ولازالت تشعر بمرور الماء حول ساقيها وهي صامدة لا تتحرك.
نظرت إلى قدميها،
فوجدتهما حافيتين.
الوادي لم يستطع أخذها، ولكنه أخذ نعليها.
رفعت عينيها إلى الغرفة،
رأته لا يزال هناك، لا يراها.
فهمست، لا إليه، بل إلى نفسها:
"أنا لم أكسر الزجاج... أنا فقط عبرته إليك".