محمد بن رضا اللواتي
ضمن الأعمال الرصينة التي تقوم "عالم المعرفة" بترجمتها، كتاب بعنوان "ما بعد الإنسان The Post Human" من تأليف روزي بريدوتي، يستعرض أزمة تعريف "الإنسان" ما بعد اجتياحه من قبل التكنولوجيا، ويطرح سؤالًا وجيهًا وهو: هل سيبقى الإنسان إنسانًا بعد أن تتدخل التكنولوجيا في مفاصل حياته؟ وهل نحن في حاجة إلى البحث عن تعريف جديد للإنسان ما بعد الإنسانية؟
وهناك مصطلح شائع في الأروقة العلمية وهو: "تجاوز الإنسانية Transhumanism"؛ وهو مصطلح يتحدث عن المستوى الذي قد يصل إليه البشر المعزز بالتكنولوجيات.
لكن.. ما تعريف الإنسانية أساسًا والتي تقبل تجاوزها؟!
الكتاب يُعرِّفُها وفق ما هو مُتداول أنَّه مجتمع من البشر الذين يمتلكون "تفكيرًا عقلانيًا" على طريقة عقل الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت، والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط وأمثالهم من الفلاسفة. والملاحظة الجديرة بالانتباه أن ديكارت، كان قد برهن على وجود الله تعالى، ولكن إله ديكارت إذا قورن بإله القرآن أو الإله الذي تبرهن على وجوده القواعد العقلية الإسلامية، فإنَّ إله ديكارت مشوه جدًا، ويكاد ألّا يكون حقيقيًا (1).
ولكن ليس هذا موضوعنا الأساسي، ولنعد إلى تعريف الإنسانية. فإذا كانت الإنسانية تعني المقدرة على التفكير والابداع، والحرية في اتخاذ القرارات، فإن "ما بعد الإنسانية" تعني أن الإنسانية "إطار" قابل لأن يتجاوزه الكائن البشري بحيث يظهر ذاته من خلال هويات متنوعة شتى. أما "تجاوز الإنسانية"، فإنه يعني تعديل الإنسان على مستوى الهندسة الوراثية، والتكنولوجيا الرقمية، والهندسة الحيوية، لكي يتلاءم وجوده مع إيقاع التكنولوجيا المتقدمة التي قد توصله إلى كينونة "افتراضية".
المفهومان يتأسسان على أن الإنسانية وجود "ينشأ" وليس وجودًا قد "نشأ" بالفعل وجفَّ القلم عن إنشائه مزيدًا.
جدير بالذكر أن صَدر المُتألِّهين- فيلسوف إسلامي صاحب مدرسة الحكمة المتعالية- كان قد نظَََّر لهذه النظرية قبل مئات السنين؛ حيث عبَّر عن الكون برمته بما فيه من الكائنات بأنه يتمركز في نطاق "الصيرورة" وليس في نطاق "الكينونة"؛ أي أنه لا يزال "يصير"، لا أنه قد صار. وعليه فقد دشن نظرية "مسخ الباطن"، وتعني أن الكائن البشري لا يُولد إنسانًا وإنما "يصير" إنسانًا، كما يمكنه أن يضل طريقه نحو الإنسانية فيكون شيئًا آخر تمامًا، ربما حيوانًا أو نباتًا أو أمرًا ماديًا، وكأن الآية "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ"، والآية "قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ"، ترمز إلى هذا.
"ما بعد الإنسانية" في أفق صَدر المُتألِّهين أخلاقية جدًا، لأنها تُكرِّس حضور الإله في باحة الكون بشكل مستمر، في حين يُطرح سؤال مخيف جدًا حول "ما بعد الإنسانية" و"تجاوز الإنسانية" كما تطرحها الرؤى الغربية اليوم، وهو: كيف لنا أن نتصوَّر أخلاق ذلك الإنسان الذي سيتجاوز إنسانيته يومًا وسيُصبح رديف الحالة الافتراضية؟
في المختبرات الأمريكية تتم صناعة كائنات آلية مُعقَّدة لأجل التجسُّس على البشر والفتك بهم، ومؤخرًا تم إنجاز كلب آلي يستخدم التقنيات المتطورة لتعقب البشر والفتك بهم مُتجاوزًا وعورة التضاريس وتم تحميل لوازم الفتك بوزن 180 كجم!
من الذي يُحدِّد أنماط الأخلاق ثم الالتزام بها لمرحلة "تجاوز الإنسانية"، ونحن نرى "الإطلاق السيادي غير المقيد في قتل وتشويه واغتصاب وتدمير حياة الآخرين؟" (ما بعد الإنسانية ص 139). أمام كاميرات العالم يتم قتل شعب أعزل وتجويعه وحرمانه من أبسط مقومات العيش ثم نتحدث عن مرحلة "ما بعد الإنسانية"؟
الواقع، لا يوجد مُنتج علمي وتقني يصدر عن المختبر هويته خدمة البشر فحسب، حتى نفخر به، ولن تكون مرحلة "ما بعد الإنسانية" إن تجرَّدت عن "أخلاق الإنسان" تضمن بقاءه واحترامه.
وفق صَدر المُتألِّهين، قد فقد نتنياهو وحُكام الولايات المتحدة، الذين ولغت أفواههم في دماء الأبرياء من البشر، "إنسانيتهم" منذ زمن، وباتوا كائنات أخرى لا تمت إلى الإنسانية بصلة، وبقي السؤال الجوهري قائمًا: من يستطيع أن يُعرِّفنا ما هي أخلاق تلك المرحلة ومن يضمن الالتزام بها؟!
****************
- انظر: "نقد ديكارت للإله: الأسس والمرتكزات الأيدولوجية"، للباحث صالح حسن زاده: مجلة الاستغراب العدد 24. و"علاقة الإنسان بالله في فلسفة ديكارت ونقده في فلسفة الطباطبائي": علي أصغر مصلح وسيد رحمة الله مقدم: ترجمة: محمد حسين موسى اللواتي: مجلة "شرق غرب" العدد 17).